تفريخ المؤسّسات خدمة للفساد..وتهرّب من المحاسبة !(حيّان حيدر)
بقلم د. حيّان سليم حيدر
كلّ إجراء لا يتناول سبب المشكلة ويحلّها يكون إعدادًا لأزمة أكبر… ولو بحلّة جديدة. هذا من قوانين الطبيعة ولا لزوم، أكرّر، لا لزوم لا لدراسات ولا لفحوصات ولا لتأكيد مستشارين لم يستشرهم أحد. هذا قانون الطبيعة. وفي هذا الموضوع يقول لنا العلماء أنّه يجب:
1- وصف الظاهرة، 2
– تحليل أسبابها،
3- إيجاد الحلول بواسطة قراءة متعددة الأبعاد لما أحاط بها من عوامل ورافقها من وقائع ومؤشرات ومؤثرات …
فإلى 4- معالجة النتائج وفيها المساءلة والمحاسبة، أكرّر: المساءلة والمحاسبة، تطبيقًا لمبدأ الثواب والعقاب.
أما إذا تعسّر (وتعثّر) إيجاد هكذا حلّ، فإليك بنظرية “القطيع” (دارجة الآن): أترك الإهتراء، الإنهيار، المشكلة تأخذ مجراها ولياتي شيء ما، أمر ما، جيل أو وضع آخر يصحّح الأمر ويحكم بين الناس.
نحن شعب لا يجروء على المساءلة فكيف المحاسبة؟
تاريخ لبنان، “المستقل”، مليء (مفعم، مدجّج) بالمفارقات الهروبية. دائمًا ما نهرب من المحاسبة إلى “الأمام” … نحو “الأكثر تطوّرًا”.
ونبدأ.
في البدء كانت الوزارات وإداراتها التقليدية والمعروفة عالميًّا. ثمّ “قيل” أنّها فشلت في عملها بسبب الرتابة العامة (“الروتين”) فيها و…؟ إقرأ بتمعّن: الفساد. ومن دون أيّ تحقيق فتدقيق فمساءلة، ذهب لبنان إلى تأسيس مجالس، أيضًا على غرار “الترنْد” (Trend) العالمي. ومع مرور الزمن، ظهرت بعض (الكثير منها) الشوائب في عمل المجالس ممّا “أوجب” إجراء بعض التعديلات في قوانينها وأصول عملها الأمر الذي مهّد لتبرير فشلها… الآتي، لا محال.
أمّا أبرز هذه المجالس فكانت في الأشغال العامة من مجالس تنفيذ المشاريع الإنشائية والكبرى لبيروت إلخ… ثمّ؟ تطوّر الأمر مع مواجهة البلاد آثار الحروب المدمّرة فكان مجلس الإنماء والإعمار، وفي خلفية إنشائه أن يحلّ مكان الوزارات التنفيذية إلى حين إعادة تأهيل وتنظيم وتمكين تلك الوزارات ليتم حلّ المجالس وإعادة الصلاحيات والمهام إلى أصحابها.
وتفاقمت الأمور، في إدارة شؤون البلاد وزادت الأوضاع سوءًا وخاصّة في غياب المسؤولية الوطنية العليا المطلوبة لهكذا مهمات. فأنشئت وزارات جديدة، مثال المهجّرين، إلى حين، وبعد ثلاثة عقود ونيف، لم ينتهِ “الحين” وقد إنتهت الغاية التي “أوجبت” إنشاء هكذا وزارة، وزيادة في الإحتياط… أي كي “يضيع الشنكاش” ولا يمكن بعدها مساءلة أحد، تمّ إنشاء صندوق للمهجّرين، واللبناني ما زال يتساءل: من هو المهجّر؟ وعلى هذا المنوال تمّ تأسيس بنك الإسكان إلى جانب وزارة الإسكان ومن ثمّ المؤسّسة الوطنية للإسكان فالصندوق المستقل للإسكان، وما زلنا نجهل لماذا وُضِعَت كلمة مستقل هنا.
طبعًا، بين بين، كان قد أنشىء المشروع الأخضر (ومعه اليابس)، ثمّ مجلس الجنوب في ظروف حروب عدوانية متكرّرة ولأهداف محدّدة سرعان ما تجاوزت حدودها فامتدّت إلى مهام “تتمتّع” بها سائر المجالس… “إحترامًا” للميثاقية.
ثمّ؟؟ ثمّ ألغيت بعض المجالس المتشابهة والمتشابكة المهام والصلاحيات لتدمج بمجلس الإنماء والإعمار الذي، بدلًا من أن ينهي مهمته الأساسية كما ذكرنا، أنشأ لنفسه صندوقًا خاصًا بالتنمية، هذا وإنشئت موسّسات عامة ومستقلّة للخصخصة وإيدال وغيرها… والآن.
وقد سبق وعرفنا إزدواجية الوزارات: المهجرين / النازحين / الشؤون الإجتماعية / التأهيل أو التمكين الإجتماعي، وسابقًا الوزارات المنقرضة: مكافحة الفساد / المرأة / المغتربين / البلديات. أيّ كلام، فقط لنملأ ذاك العدد (السحري) ثلاثين من الأوزار في حكومات الميثاق.
والآن، يتناحر المتحاصصون الأبديون على إنشاء هيئات ناظمة، الأسم الحركي الجديد للتهرّب من المسؤولية. فهناك هيئة للنفط والغاز قائمة منذ العام 2012 بمفعول 133 ألف دولار شهريًّا أتعابًا لأعضائها والتي لم تستخرج بعد ليترًا واحدًا من النفط ولا نفخة واحدة من الغاز، ويبدو أنّ الأمر سيطول. وهناك مشاريع منذ زمن لإنشاء هيئات ناظمة للكهرباء والمطارات وغيرها من المرافق العامة. وطبعًا هناك الهيئة للإتصالات، المتوقفة (هي والإتصالات) عن العمل منذ سنين (ومرّت)، والتي تتشابك صلاحياتها مع أوجيرو التي تتقاسمها مع الوزارة التي لزّمت مهامها إلى الشركات الخاصة التي بدورها…
يا حيّان طوّل بالك علينا شويْ !..
ومن آخر البِدَع، نقرأ مؤخّرًا عن وجود “مجلس إشراف المالك” ؟؟ شي جديد، في مجال الإتصالات. وقد أنشىء خلافًا للأصول والقواعد القانونية، حسب تقرير لديوان المحاسبة، وهو ما زال قيد التعرُّف عليه والتساؤل حول مهامه وواجباته..و.. جدوزاه !
وعلاوة على كلّ ذلك، وبحجة الحروب والظروف الآنية (الدائمة والمستدامة) والكوارث، الطبيعية وغير الدستورية والإدارية، أنشأنا الهيئة العليا للإغاثة، وكأنّ هناك هيئة وُطْيا لذاك الأمر. والأمر فيه تجاوز للدستور ولكلّ قوانين الإدارة الرشيدة والمحاسبة العمومية وما إليها من ضوابط تؤمّن حسن سير العمل، وكلّها بسبب الظروف الإستثنائية التي بتنا نسعى جميعًا إلى إدامتها للتنفّع من إستثنائيّتها. والسبب الرئيس أنّها “تنعم” بموازنة خارج “قيد” التدقيق والمحاسبة وبمهام خارج “قيد” التحديد ونظام تعيين وكوادر، كما وتعمل بأوامر مباشرة من رئيس الوزراء دون سواه وطبعًا خارج قيد التفتيش المركزي وديوان المحاسبة وسائر المؤسّسات الرقابية، ولكن وفقًا للقيد “الميثاقي” الطوائفي.
وفي سياق مناقشة مشاريع تنظيم حركة الأموال، كالسرية المصرفية أو الكابيتال كونترول (ما سبق وعرّفنا عنه بمختصر ك.ك.) ومراقبة أعمال المصرف المركزي، بدأنا نسمع عن المطالبة باستحداث مجلس للنقد.
هذا بعض من الغيض…
أمّا الفيض، فإنّ هذا النمط من “الحكم” بات ينسحب على جميع المجالات والمستويات.ولقد شاهدنا وشهد لبنان “تفريخ” مجالس وهيئات ومديريات وفروع عسكرية وأمنية وإستخباراتية وغيرها إشباعًا (ولن يشبعوا) للميثاقية اللبنانية إلى حدّ “الثمالة” أي أنّنا، من كثرتها وتعدّد مهامها وتشابكها، بتنا نشهد على خلافاتها وحتى مواجهاتها البعض للبعض الآخر في أمور باتت جهارًا “طوائفية” لا بل زبائنية. وهنا يصبح الخلاف على تكبير الجهاز وتمويه الصلاحيات المتضاربة وتضخيم الموازنات.
وليس أخيرًا بل قد يكون أوّلًا، بدلًا من إيجاد حلّ للمشكلة أو العطل منذ البداية، بدراسته وتحليله وتصحيحه والمسائلة والمحاسبة على سوء الأداء والتصرّف، نذهب إلى “الحلول البديلة” هربًا من المحاسبة. فعندما تتعطّل سلطة ما عن العمل، رئاسة الجمهورية، مجلس النواب وهيئاته ولجانه، مجلس الوزراء والحكومة إلخ… بدلًا من إيجاد حلّ للعطل نذهب، أي نخترع، “سلطات” ومهام بديلة، وهمية، إفتراضية لأنّ العالم الإفتراضي بات أوسع أفقًا ومجالًا للخيال وبالتالي لِلـْ…إحتيال. ومن الأمثال: تشريع الضرورة، تصريف الأعمال “بالمفهوم الضيّق” وهات من يقيس ضيق الصلاحيات ومدى التصريف، هذا إلى إنتقال صلاحيات “الفراغ الرئاسي”، وليس الرئيس.
ومن الأمثلة التي تُعاوِدنا بين فترة وأخرى، هيئة الحوار “الوطني” وهي غير دستورية أصلًا: متى تشكّل وتُدعى للإجتماع؟ مَن يدعي إليها؟ مَن يسمّي أعضاءها؟ مَن يضع لها جدول الأعمال؟ مَن يبدّل الأعضاء؟ كيف تصدر عنها البيانات والمواقف والقرارات؟ وما قيمتها وقيمة إعلاناتها؟ ما مدى إلزاميتها وهي تتعارض مع نصوص الدستور اللبناني… وليس أخيرًا: ما هو إذن دور المؤسّسات الدستورية في الأساس؟
وإذا راودك الظنّ أنّني أبالغ في الوصف أو أنّي أضخّم في تركيب المشاكل، فانتظر زمن (قد لا يأتي) تعيين أعضاء الصندوق السيادي، “المنتظر” بلهفة الولهان، والذي سيستحق، بكلّ جدارة، لقب “صندوق الفرجة”.
ولأنّ هذا غيض من فيض أرى أن نتوقّف هنا عند مسألة التهرّب من المساءلة والمحاسبة من طريق تفريخ الجهات التنفيذية الرديفة التي تحلّ محلّ البديلة التي سبق وحلّت مكان الأصيلة إلخ… أمّا لماذا تسأل؟ لأنهم، المسؤولين ونحن منهم، ضعفاء في الممارسة السياسية التي يمارسونها من بابها الطائفي.
هناك أسئلة باتت غاضبة وأصبحت حائرة عندما نغطي الخطأ السياسي بالخطيئة الطائفية !
(“) إنّ الكلمات الواردة بين “هلالين” قد لا تعني بالضرورة ما تعنيه.