سياسةمحليات لبنانية

الرئيس بري والحبيب الصادق وأنا ثالثهم: في رحاب التاريخ العاملي المعاصر (محمد سعيد بسّام)!

 

د.محمد سعيد بسّام – الحوار نيوز

خير رثاء للصديق الاديب حبيب صادق، وكوني باحثا في التاريخ، هو الاسهام في تأريخه، بفصل من سيرته… معي!

بداية، عرفته، غيابياً، في الستينيات من القرن الماضي، مرشحا تقدميا للنيابة في وجه الاقطاع الاسعدي في قضاء مرجعيون وملحقاته، وما لحق به من الاعيب التزوير السلطوي، لدرجة إسقاطه بعد فوْز- قيل؟ مثلما كان يلحق بمرشحينا التقدميين في قضاء بنت جبيل، ولو بجهد اقل وفعالية اكثر، لقلة الخطورة؟
ثم عرفته “خياميا” بعد اقتراني بشريكة حياتي “الاميرة” الخيامية، خصوصا وأن اخاها الاستاذ رياض قشمر (وامثاله من تقدميي الخيام) كان شريك الحبيب الصادق ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، حتى كان جزءاً من حياته السياسية والثقافية في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي؛ والضمير يعود لكليهما دونما كبير فارق.

عزز ذلك التعارف بعض زملائي من طلاب الخيام في دار المعلمين والمعلمات في بيروت، من ستينيات القرن الماضي، حيث وجدتهم، عموما، من مناصريه السياسيين؛ اذكر منهم، مع حفظ الالقاب: د. طلال وسهيل يونس؛ د. علي وكامل فاعور؛ الحسنان ومحمد العبدالله؛ امين سويد وعلي شيري الخ)، وعلى راسهم جميعا استاذي في الجامعة اللبنانية د. محمد مخزوم (رحم الله الاموات منهم واطال بعمر الاحياء).

وعليه كان “عزيزي” حبيب صادق صديقا عائليا حميما، مهنئا لي في زواجي وبمقدم ولديّ حسن وتمارا، في المستشفى وفي البيت! وبالمقابل صرت، طبيعيا وبديهيا، من عائلة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الملزمة والملتزمة بتوجهاته وانشطته! دونما كثير عناء لأمرين: الاول سياسي؛ حيث كنت (وامثالي) من جماعة الحركة الوطنية – القومية التقدمية اليسارية في منطقة بنت جبيل، خلف مرشحينا التقدميين: (د. حسين مروة واحمد مراد (الشيوعيان) محمود بيضون وعلي يوسف (البعثيان). الامر الثاني ثقافي؛ لاختصاصي في حقل التاريخ، والتاريخ العاملي تحديدا؛ حيث كنت قد انجزت “رسالة” للكفاءة في التاريخ في كلية التربية (1972 بعنوان: ناصيف النصار في جبل عامل)، وأعِد لشهادة الدكتوراه (بفرنسا – باريس 4؛ منذ 1975)؛ والمجلس الثقافي الجنوبي كان بصدد استجماع ما امكن من التراث الثقافي العاملي في مكتبته العامة.
وما عتمت، سنة1981، ان نلتُ شهادة الدكتوراه في التاريخ بعنوان: “الاتجاهات السياسية في جبل عامل (1918 – 1926)”. وبالطبع اهديت مكتبة جبل عامل في المجلس الجنوبي نسخاً من دراساتي التاريخية عن جبل عامل (الكفاءة والدكتوراه)؛ وسريعا طلب مني الاستاذ حبيب نشر اطروحتي للدكتوراه في كتاب عن دار الفارابي؛ ورجوته ان يؤجل النشر ريثما اعيد النظر بصياغاتها وتنظيمها وتبويبها النهائي، خصوصا وانها كانت قد اختُزلت، لدواع عملانية، من 750 صفحة الى 300 في ثلاثة ايام(؟!)، فضلا عن اختلاف الاجراءات بين الكتابة الاكاديمية والنشر الاعلامي؛ لكن الاستاذ حبيب الحّ متلهفا للسبق والعجلة، كونها من اوائل الدراسات التاريخية العلمية الموثقة عن جبل عامل، فنزلت عند رغيته تقديراً ومودة.


في هذه الاثناء استضافني المجلس الثقافي في محاضرة عرضت فيها دراستي التاريخية، بتقديم من الحبيب نفسه! وبمداخلات من المثقفين المهتمين! وسط حشد من الحضور الوافد من كل الجهات الى جنوب الوطن الصامد المقاوم !
لكن سوء التقادير والطوالع، ووقوع الاجتياح الاسرائيلي للبنان 1982، ووصوله الى اعتاب القصر الجمهوري في بعبدا، اربك النشر واخّره؛ وكانت فرصتي لسحب مخطوطة الدكتوراه لاعيد النظر فيها وفقا لرغبتي السالفة. ولكن هذه الفرصة طالت مكانا وزمانا (نحو 25 سنة)، واغتنت معلومات واضافات، واعادة تبويب حتى قاربت إعادة التأليف.
وفي هذ الاثناء، كان الاستاذ حبيب يعدّ كتاب “سقط المتاع” عن المرحوم والده الشيخ عبدالحسين صادق، من اعلام علماء جبل عامل زمن الانتداب الفرنسي، فشرّفني بالاقتباس عن اطروحتي للدكتوراه ما اتصل بالمرحوم والده من احداث وادوار!
ومن ناحية اخرى متصلة، كانت انتفاضة 6 شباط 1984، بتحالف استراتيجي بين “حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي”، وكانت انعكاساتها الوطنية كبيرة وايجابية على التوازنات الداخلية اللبنانية، وفي مقدمها انعقاد لقاءات لوزان وجنيف لازالة اثار العدوان الاسرائيلي على لبنان: كيانا واجتماعا ! وكان دخول الشيعة اللبنانيين التاريخي (دون تاريخهم الخاص) في الصيغة الطائفية في لبنان الكبير. وكانت فرصتي الوطنية والشخصية في آن، لربط ما انقطع من صلات مع الاستاذ المحامي نبيه بري، منذ ستينيات القرن الماضي، مذ كنت استاذا في بلدة تبنبن العامرة، وما تخللها من سهرات ونقاشات سياسية تقدمية عروبية (فضلا عن لعب الورق) في منزل صهره، زميلنا الاستاذ محمد دكروب (القاضي لاحقا رحمه الله)؛ فزرت الاستاذ “النبيه” في بربور، وقدمت له نسخة الدكتوراه الاكاديمية، منوهاً بوجوب الاطلاع عليها قبل المؤتمر، فقد تخدمه معلوماتها في الحوارات والمفاوضات حول لبنان الكبير الاهلي المكلوم.
وتتابعت الصلات مع الرئيس بري (لاحقا) بصفتي النقابية الجامعية والوفود المرافقة لاسباب مطلبية، واثناءها نوّه بمضمون اطروحتي العاملية، ومرة عرض علي (بحضور الصديق المرحوم بلال رفعت شرارة ، عضو الهيئة الادارية في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي) نشْرها على حلقات في مجلة حركة امل “العواصف”، وفي كتاب من تقديمه؛ ويومها اعتذرت عن النشر بانواعه، لاني كنت اعيد النظر بدراساتي ووثائقي التاريخية عن جبل عامل (من الانتداب الى الاستقلال)، وآلية نشرها في 3 كتب افتراضية. ولما جهُز الكتاب الاول بعنوان:” جبل عامل بين سوريا الكبرى ولبنان الكبير (1918- 1920) حقائق بالوثائق” في 620 صفحة ! نشرته على نفقتي الخاصة، حفاظا على موضوعيتي وحرية رايي، لكني لم استطع التخلص من تقديم دولة الرئيس نبيه بري للكتاب، الى جانب تقديم استاذي الكبير البروفسور هشام نشابة (اطال الله عمره ليقدم لي الكتاب اللاحق بعنوان (منتظر): ” جبل عامل = جنوب لبنان الكبير”؟! وكان من جراء ذاك التقديم “البري” ان امتنع الحبيب الصادق عن حضور حفل توقيع الكتاب في الجمعية الاسلامية للتوجيه والتعليم العالي – سبينس (2011)، معتذرا لي شخصيا، بصعوبة حضوره حفلا برعاية الرئيس بري؟ وتقبلت اعتذاره، معاتباً نفسي قبل عتبي عليه؛ ثم كان ان رحَل “عزيزي” (لروحه السلام) دون ان يقيم (للاسف المشترك) ندوة حول الكتاب العاملي الذي حلم طويلا بنشره وتقديمه؟!


* بعد هذا الجانب الثقافي من سيرتي مع “عزيزي”/ اقدم جانبا سياسيا متواضعا من سيرة الحبيب الراحل معي، الصادق مع مبادئه (عدا الفصل الملتبس من صلاته مع جماعة البريستول (اركان قرنة شهوان و14 اذار)، واستضافته بعضهم، مرة، في قاعة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، بعيد اغتيال الرفيق الحريري (2005)… قبل ان يقطع نهائيا معهم (2007) لامور سياسية خاصة (وليس المجال)؟!
ثم كان ذات يوم من تموز 1992، فاجأني وشرفني حبيب صادق”السياسي” بزيارته في منزلي في الضاحية الجنوبية، مع نخبة محدودة من مريديه التقدميين، وعلى راسهم الاستاذ رياض قشمر (شقيق زوجتي)، واعرب عن نيته خوض الانتخابات النيابية، ويريدني عضوا في اللجنة المركزية المصغرة لحملته الانتخابية عن الجنوب اللبناني – قضاء مرجعيون.

كانت سعادتي غامرة بهذا العرض والانتداب المشرّف، اذ احسست اني انخرط ، لاول مرة، قلبا وقالبا، في حملة مرشح تقدمي قلبا وقالبا، مع الاحترام والتقدير لمن ايدتهم سابقا، بحدود امكاناتي، من المرشحين التقدميين في قضاء بنت جبيل.

وسريعا وافقت وخضتُ في التداخل، قائلاً: في الانتخاب على مستوى الجنوب دائرة واحدة، وبتحالف امل حزب الله وبعض التقليديين، لا امل بالنجاح الا بالانضمام الى اللائحة المناهضة للاقطاع السياسي التقليدي، الذي يكاد يلفظ انفاسه؟ وارى اننا شبعنا تصدياً من باب اثبات الوجود ، فيجب ان نصبح شركاء في صنع النصر وبناء لبنات التغيير! وسريعا التقط الصادق فحوى مداخلتي، وعلّق ايجابا، مشترطاً ان يكون التوافق والاعتراف متبادلاً من موقع الكرامة والمساواة، دون التحاق او صَغار، (كما كان يسلك بعض مَن سمّاهم من “التقدمجيين” من عراضات في ساحة مصيلح). فأكدتُ الرؤية الفطنة للمناضل الصادق؛ وانتقلت عارضاً لجولات الزيارات التقليدية للناخبين في القرى؟ ففاجأني الحبيب باسلوب تجديدي للتواصل، قال: نظرا لاتساع حقل التواصل وضيق الوقت، سنزور الناخبين بعد الانتخاب شاكرين، لا قبلها طالبين؟ فأكبرتُ هذه الفرادة في الرؤية السياسية؟… واحتسينا الاستكانات الاخيرة للشاي المخمر؛ وتودعنا متواعدين على اللقاءات التحضيرية للتحركات العملية. واعلنت اللجنة (11 عضوا) اعلاميا على صفحات “النهار”. وعاجلا باشرتُ اللقاءات مع اللجنة الانتخابية بمعظمها “الخيامي”. وتسلمت دفاتر التبرعات الافرادية، كالعادة، من قِبل العمال والفلاحين لحملة حبيب صادق (في الدفتر 25 ايصالا كل منها بالف ليرة).
وعدتُ استعرض ماضيّ ومعارفي، ووضعت خريطة طريق للقيام بواجبي بزياراتهم السياسية، متفائلا سعيدا. وصارت خطة جولاتي اليومية كالتالي: اعداد كيلو لحم بعجين صباحا غذاء يوميا، ثم ذرْع للجنوب من بابه الى محرابه، منتدِبا اصدقائي للاشتراك بالحملة، وغالبا ما كانوا يلبون الطلب بفرح وامل؟ معربين عن املهم بان يكون ممثلم التقدمي (لاول مرة) مدخلهم الوطني للتعامل مع السلطة، ونيل حقوقهم الخدماتية منها. وغالبا ما كنت انهي جولتي بالتعريج على النبطية، في اواخر الليالي، لمقابلة حبيب صادق واستعراض الامور؛ ويومها اطلق علي الحبيب لقبا محببا، “الداعية” لا مجرد ناصر فحسب! وشكرا حبيب!- كنت اجيب .
من جهة اخرى متصلة، كان من لائحة المقاومة والتحريرالمرشح د.ايوب حميد (ابن اخت صهري المرحوم علي شكر)، وكان ان طلبَنا للدعم، فالتقينا (انا واخوتي وصهراي) على سطح منزله البيروتي (في محلة البطركية)، فابدوا استعدادهم للدعم المطلق بحكم القرابة ووحدة التوجه السياسي التقدمي العام. اما انا فانقل لكم (بسعادة وطرافة محببة) حوارا سجاليا مختصرا مفيدا بما قل ودل، بيني وبين “ايوب”عصرِه، من كرنتينا الفقراء والمحرومين الى الندوة النيابية. قلت: عزيزي وقريبي ، تعرف باني من حملة الاستاذ حبيب صادق، كما جاء في صحيفة النهار/ فانا اعدك بتاييدك افراديا بحكم المصاهرة والصداقة، اما بقية اللائحة “الاملاوية” فلا اعدك بها… قال: لا بل ارجوك دعم اللائحة بكاملها؟ قلت: لا بأس، اذا كان حبيب صادق عضوا فيها . قال ايوب: ثمة اتصالات بيننا للتحالف، وانشالله خير! قلت: إن كنتم صادقين في مواجهة الاقطاع السياسي ، فحبيب كان الاسبق منكم بعقود، ووجوده على لائحة الجنوب يعطي للائحة مصداقية وطنية ، وهوالوحيد الذي يزوّد اللائحة بقيمة تقدمية مضافة، عُدة وعددا، والطبيعي ان تكونوا مجتمعين لا متباعدين. قال: لا انكر ذلك؟ بس قل لصاحبك “ما يتبغددش”؟ قلت: “ويصحّلّكم”؛ وآمل ان يكون لك دور ما في تقريب وجهات النظر. قال: انا حاضر بما استطيع؟ قلت: وهاك دفتر حملة التبرعات للاستاذ حبيب، افتتحْه بمساهمتك ؟ فالتف واخرج من جيبه الخلفي رزمةَ مئة من الالاف اللبنانية، وقال: خذ منها ما تريد؟ قلت : انا آخذها كلها ؟ قال: لا والله ، الان استلمتها من رصيد الحملة، ما معي غيرها. وسأل ما قيمة الايصالات في الدفتر؟ قلت: 25 ايصالا بـ 25 الف؟ قال اعطني دفترا كاملا. اعطيته وقلت: والله اول دعم مبارك لحملة حبيب هو منك يا ايوب. وتودعنا على امل المساعي الايجابية كل من جهته.

من جهة اخرى متصلة، كنت على صلة مع الصديق المناضل العتيق ناصر قنديل واخيه غالب في “رابطة الشغيلة”، وجريدتهما الظرفية “الحقيقة”. وفي احدى جلسات السهر “المسيّس” فتحنا سيرة (الحبيب والنبيه) وضرورة اجتماعهما التاريخي؟ وكان جوهر مداخلتي التالي: مَن يبادر اولاً ؟ لا فائض قيميّاً لدى حبيب ليبادر، فقيمته في ثباته، بينما نبيه هو الاقدر على المبادرة بفيضه: نظرياً وعمليا وتطبيقا، دون ان تهتز صورته او “حركته” وتحركاته. ووافقني القنديل الناصر؛ فدعوته للقيام بالواجب السياسي المطلوب ، بحكم تواصله شبه اليومي مع استاذ “بربور”؛ ووعد خيرا.
ولما كان حفل افتتاح “جسر الزراربة”، وخطاب بري المنتظر من قِبل الجنوبيين؛ كان تنويهه المكرر باسم حبيب صادق، الصادق في تصديه للاقطاع الاسعدي في مرجعيون، واسقاط السلطة له، فيما يدعون الانتخابات الديمقراطية؟! استمعت، وحلّلت، ووجدت أن في هذا الخطاب رسالة سياسية كريمة ومحترمة، تُعادل المبادرة التي كنت اسعى اليها عبر د. ايوب حميد والاستاذ ناصر قنديل. ولم تمض الا “مسافة السكّة” من حفل الجسر الى بيتي في الضاحية، حتى سمعت ناصر قنديل وصراخه العاجل من تحت البرندا: هل وصلت الرسالة؟ اجبت: وصلت وكثّرت! ولك جزيل الشكر! وسارعت الى الاتصال بالاستاذ حبيب مشيرا الى “رسالة الجسر البرّية”! فردّ مشيرا الى وفد عياني جاءه مؤلف من زملائي واصدقائي الجامعيين: د. ابراهيم قبيسي ود. غسان بدر الدين! فاستحسنت الخطوة من نبيه بري، ورجوت حبيب ان يتوقف عندها ويبني عليها، دون ” بغْدَدة” – كما طلب سابقا ايوب حميد؟!
وبعد التحالف استمرت الحملة الانتخابية “الصادقية” دون تقاعس او استرخاء، لنثبت للحليف قيَمنا وقيمتنا ووعودنا وأعدادنا. وانضم حبيب الى الاجتماعات التحضيرية للمعركة في المصيلح، بما فيها جمْع المساهمات المالية للمعركة، ومنها انقل مشهدا طريفا عن لسانه، قال: سبقني المرشح حسن علوية بالاعتذار عن المساهمة لضيق ذات اليد، فعذروه؟ ووصل الدور الي قلت: اذا اعتذر الاستاذ علوية بحقه بالزكاة في اموال المرشحين المتمولين، فانا اعتذر بحقي من “سهم الإمام” في اموالهم؛ فضحك الجمع لهذا الاخراج “الفقهي” للشيخ حبيب ابن الشيخ عبد الحسين صادق (قده).
وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز ساحق “للائحة المقاومة والتحرير”، كما كان متوقَعا، لكن فصول الثقافة العربية التليدية المتعصرنة بدأت تظهر؟ فزيارات الشكر اللاحقة للناخبين لم تحصل، للاسف، كما كان الوعد (؟!). وسريعا ظهرت نوايا قصيرة النظر للقادمين الى التحالف مع بري، على امل الفكاك عنه بعد الفوز؛ايديولوجيون مستكْفون ماديا ومعنويا،غير متطلعين الى العمل الجبهوي؟ فيما كانت رؤيتي البراغماتية (كيساري علمي واقعي غير انتهازي) تسعى لتثمير الامكانيات ومضاعفتها تبعا للظروف؛ فالنضال “الحزبوي” يريح النفْس نظريا، لكن انتاجيته تعادل العدم؟ فيربح الفرد ويخسر الناس؟ وما ذلك،عندي،غاية النضال الفعلي. وسريعا فكَكْت عن الجماعة…واغلب الظن ان تلك الجماعة “بشخصانياتها ومزايداتها المتبرجزة” اثّرت على مستقبل الحبيب داخل لائحة الجنوب؟
وسريعا اوقفت لقاءاتي مع اللجنة الانتخابية المركزية للحبيب صادق، بغالبها “الخيامي- المرجعيوني”، وعدت الى لقاءات ثنائية حميمة بصراحتها مع “عزيزي”، كشبه مستشار غير رسمي – إن صحت التسمية- وكانت مداولات بيننا مفيدة حول سياسة التعايش بين النائب اليساري والرئيس “الاملاوي” غير المسبوق نموذجا؟ وكنت قد شغلت نفسي بهذه الاشكالية المحتسبة مسبقا؟ وحضرتني، واستحضرت ثنائية “كمال جنبلاط – محسن ابراهيم”، ووجدتها الاقرب الى ثنائية “بري- صادق”، فعرضتها على حبيب قائلاً: ان “لائحة المقاومة والتحرير” تفتقر الى منظّر عصري (لم يكن د. محمد بيضون قد برز) فيمكن لك”عزيزي” ان تلعب هذا الدور، دون التمادي في الديالكتيكية الماركسية، خصوصا وان المصيلح على طريق النبطية – بيروت ذهابا وايابا. فاستحسن حبيب الفكرة، متكِّلا على الآتي من الايام.
ومرة عرض الصادق عليّ مشروع كتلة وطنية نواتها سليم الحص ونجاح واكيم ؟ فاستحسنت الفكرة نظريا، لكني حذرت من الانعكاسات جنوبا. وقلت: ان في ذلك انفكاكا عن لائحة الجنوب، الامر الذي لا يتقبله بري؟ وفيه خسران لنيابة الجنوب؟ فإن كنتَ عازماً على نيابة بيروتية أقدم ، فترتاح سيكولوجيتك السياسية المبدئية؟! وتركته حائرا في فكرة حائرة؟
ومرة شكا لي سلوك “برّي” الرئاسي، فهو قليل المشورة مستبد القرار، يحصر الخدمات الانمائية “بدارة المصيلح”، مثل ايام “دار الطيبة”. فوافقته الرؤية، لكني اشرت الى واقعية الامور: تحليلا وتفسيرا؛ على قول المثل الشعبي: “معك قرش بتسوى قرش”؟ فالرئيس برّي حامل امانة الامام الصدر، ورئيس حركة امل الممتدة على ثلث الجنوب على الاقل، وحصرية الخدمات به وبدارته هي استباق احترازي خشية من فكاك احدهم عنه؛ فإما ان يرضى بالمقسوم، او يخرج المنشق دون مفاعيل الخدمات المتمركزة في مصيلح؟… ثم ان منافسه الفعلي، حزب الله، هو حليفه حتى الآن، على الرغم من ملامح الكراهية ورغبات الاحادية القبلية المتبادلة؛ وبالتالي هوذا واقع سياسي – شعبي، او ترضى به او تخرج عليه حراً فردا مفرداً. لكني نصحتٌ بالصبر والاحتمال لبعض الوقت ؟ وحضرني يومها مثال عن تصادم السيارات، فاشرت ان لا يصطدم مع بري “بوز لبوز بل رفراف لرفراف “، بحيث يمكن اصلاح آثار العدوان.  وبكّير على الافتراق والطلاق. واستطردت شارحا: ان جمهورنا اليساري العام يتناقص تدريجا، تبعا للحاجة والخدمات، دونما كثير حرج، خصوصا وان لائحة “الجنوب” وطنية، ليست مكشوفة كايام الاسعد – الخليل؟ واظننا بحاجة الى دورة نيابية ثانية ليقسو عودنا النيابي اكثر، وكان جواب صادق: ما بينحملش يا دكتور..  على كلٍ منشوف… وكان ان قضى الواقع المخالف للطبائع والتاريخ بألا يكمل الحبيب الدورة النيابية الواحدة مع “الثنائي الشيعي الوطني”؛ وخرج حرا ولم يعد؟!
وفي انتخابات 1996، كانت بوادر الافتراق المنتظر بين طرفي الثنائي، امل والحزب. ويُروى الكثير عن سيناريوهات التحالفات المتضادة في الجنوب، وفي احداها رواية عن تحالف بعض اليسار مع البك الاسعد من تحت الطاولة، لكن الاسعد اشترط بان يكون التحالف معه جهارا نهارا. ثم كان تدخّل الرئيس حافظ الاسد لاعادة اللحمة، ولو بالاكراه، الى فريق المقاومة، فخابت امال المتربصين قبل آلام المخاضات المتخالفة.
ومن يومها، وبعد حصول التحرير(2000) واستفحال الاصطفافات السياسية والطائفية بعد اغتيال الرئيس رفيق حريري، وتداعياته المتعددة المسارات… هذه التطورات اسستْ لولادة الثنائي الشيعي شعبيا وسياسيا، حتى صار حاجة وجودية للطرفين، واستطرادا حاجة ماسة للوجود الشيعي في لبنان الطائفي، وهي تزداد كلما زاد حصار الطائفة؛ وهي مستمرة حتى إلغاء الطائفية السياسية،او أن يقضي الله امرا كان مفعولا.
أخيرا، اختم سامحاً لنفسي بالبوْح ببعض ما كان يسرّه لي الصادق في جلسات ثنائية ذات شجون، بوْح يشبه الحسرة لدى الحبيب من عقوق البعض، أفرادا وجماعة. فأشير سريعا الى ما كان يسرّه لي من شعور الخيبة من محدودية آثار نشاطات المجلس الثقافي في المجتمع الجنوبي، (على سبيل المثال لا الحصر) كمثل حفل تكريم الفنان علي قبيسي في بلدته زبدين؛ فبعد طول اعداد، فوجيء بهيمنة القوى السياسية المحلية على مظاهر التكريم، وهم كانوا بعيدين كليا عن الالتفات الى فنه وتكريمه. فأجبت في هذا المجال: إن النشاط عن بعْد، والبعيد عن القضايا المعاشة محليا يكون محدود الفعالية والتأثير. فتحولات السوق الراسمالية قلّما تؤثر في سوق النبطية والنبطاويين؟!
أما عمَن توكأوا عليه ، وبخاصة مَن عُرفوا بـ”شعراء الجنوب”؟ واشجانه حيالهم بعد بعادهم؟! اقول: كل من عرف “عزيزي” الاديب والكاتب والشاعر والمفكر والسياسي، وامين سر المجلس الثقافي الجنوبي بكل افاقه السياسية وامكانياته العملية، كلهم اتكأوا عليه حتى اكتسوا بالريش، لا بل ان بعضهم تكأكأ عليه، ثم افرنقع؟… قُتل الانسان ما اكفره؟ .. وجلّ من لا يخطيء؟
وعن نفسي، استميحكم عذرا وعفواً، احمد الله اني لم اقصّر في حق المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وأمينه الصادق. بل كان لي عليهم، بكل تواضع، اكثر مما لهم علي؟ وإن كان لي ان اقرأ في كوامن النفوس، اقول: رحل الحبيب وفي نفسه شيء من امنية بان يقيم ندوة ثقافية حول “كتابي العاملي”، الذي حلم طويلا بان يقدمه وان ينشره ؟! وفي نفسي شيء من لقاء… رحمه الله!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى