ايها المؤرخون .. قومية عربية بلا جذور؟!(د.محمد بسام)
بقلم د. محمد سعيد بسام – الحوار نيوز
يجمع المؤرخون على حدوث هجرات شعوب قديمة، قبل الميلاد، على امتداد جغرافية الكون، لأسباب طبيعية او سياسية او اقتصادية. ومنها استحضرت هجرة جماعات من شبه جزيرة العرب، بسبب جدبها بعد خصب! او بسبب انهيار سد مأرب! والتسمية الجغرافية للجزيرة تفيد بان سكانها عرب تاكيدا. وتابع المهاجرون شمالا، فوصل بعضهم الى بلاد الشام: أرض ارام في سوريا الداخلية (مشتقة من فعل أرَم السرياني، ومعناه ارتفع) وسُمّوا آراميين. وآخرون استقروا في سوريا الساحلية، ارض كنعان (مشتقة من فعل كنَعَ السرياني، ومعناه انخفض) وسموا كنعانيين.(بما يذكر في عصرنا الحاضر بسكان الحارة الفوقا وسكان الحارة التحتا)؟!.
اول استثمار وتحريف لمعطيات التاريخ القديم الملتبس، كان عام 1781م، على يد باحث نمساوي يهودي دعي (أوجست لودفيج شلوتسر (August Ludwig Schloester )، إذ درَس، مشكورا، تلك الهجرات وسِماتها ومميزاتها المشتركة، ووحدة منطلقاتها العربية، ومصباتها الشامية، العربية استطرادا، حيث ان مؤرخي “الجيران الاغريق” كانوا يسمّون بلاد الشام “عرابيا Arabia “، امتدادا لشبه جزيرة العرب.
لكن بحث هذا الباحث انتهى الى خطيئة تاريخية غائية، إذ اطلق على هذه الهجرات اسم “الهجرات السامية” (Semite))، نسبة الى سام بن نوح؟ وليس الى البشر- العرب، او جغرافيا ارض العرب. فالمعروف علميا ألا صفاءَ لعرق بشري منذ ايام نوح النبي، الى الاف السنين اللاحقة المتداخلة، قبل تشكُّل عناصر اثنولوجيا وانتربولوجيا بشرية ثابتة.
والمعروف، حتى الامس التاريخي، ان ثمة ترابطا بين اسماء الامكنة وساكنيها، فيقال: “فلان” البصري او البيروتي او المصري… الخ؛ وكنعانيون من كنعان، وبابليون (بابل)، واشوريون (آشور). وثمة بلاد تسمّت ببناتها او حكامها: الاسكندرية ،القاهرة، جبل طارق الخ.. باختصار ان التسميات في فجر الحضارة كانت تتفادى المجرد وتميل نحو المحسوس والملموس.
والحجة الدامغة لاغراض هذا الباحث ورُعاته الغربيين، هي ان هجرات مماثلة وموازية لهجرات العرب القدماء، حصلت من بلاد الهند الى اوروبا، فلم تسمَّ “حامية” او “يافثية”، بل ارتبطت بالامكنة الجغرافية، فسميت “هجرة الشعوب الهندو- اوروبية”.
ثم إن وقائع التاريخ اللاحقة وتاويلاتها كشفت اغراضا هادفة للباحث النمساوي اليهودي وتسطيراته. فالعرب، جميعا، لم يأخذوا بتسمياته، ولم يأبهوا لها ليتصدوا لها تصويبا، فيما آخرون ، اليهود، اعتمدوا عليها وتسمّوا بها، واصبحوا “ساميين” نسباً، واصبحت معارضتهم في خطاياهم السياسية اللاانسانية تُدمغ بتهمة عنصرية، “العداء للسامية” ! وبذلك خرجوا من العرب قومية، ودخلوا في “السامية” عِرقا؛ ليتميزوا بهوية خاصة وعرق خاص، تمهيدا لاغتصاب وطن خاص في فلسطين.
الاستثمار الثاني جاء بعد قرن ونيف من الزمان “السامي”، في اواخر عهد الدولة العثمانية المتهاوية، إذ تطلّع سكان “متصرفية جبل لبنان” الى توسيع جغرافيتها الجبلية المحدودة الاقتصاد زراعيا، واعدوا لطموحاتهم السياسية سندا تاريخيا باسم “الحدود الطبيعية” للبنان التاريخي المقتبس عن التوراة، او “حدود الامارة المعنية في عهد الامير فخر الدين الثاني” الذي انتهى سريعا، باعدام سلطاني عثماني عام 1635. واستكمالا لطموحات الموارنة الاستقلالية في “لبنانهم المميز”، وليكتمل كيانياً، بحثوا عن سند قومي يميزهم عن محيطهم العربي، فوجدوا ضالتهم في “بدعة” شلوتسر اليهودي حول “الهجرات السامية” لا “العربية”، وتبنوا فرعها الكنعاني – الفينيقي جذورا للبننة، على غرار فرعها العبراني الطامع بفلسطين “وطنا قوميا لليهود”. وعليه، فإن الرد على هذه “التوليفة” السياسية المغايرة، يقتضينا استعادة بعض التفاصيل البحثية (اعلاه) ، لمناقشتها على ضوء المنطق العقلي.
الكنعانيون هم سكان ارض كنعان السورية الساحلية منذ 6 الاف سنة، وبحكم ضيق موارد الطبيعة، اعتمدوا اقتصاد البحر أسماكا وتجارة، فاتقنوا صناعة السفن، وركبوا بتجارتهم بحر الروم او البحر الشامي، (اي البحر المتوسط حديثا) الى جزره (قبرص رودس وكريت…) وشواطئه (اغريق اليونان، وقرطاجة – تونس). اغريق اليونان لقبوا هؤلاء التجار الوافدين بـ”الفينيقيين”، من فونيكس Phoenix الاغريقية، ومعناها الاحمر، نظرا لسحنة التجار الكنعانيين المائلة الى السمرة او الحمرة . وعبْر التاريخ غلب اللقب الفينيقي على التسمية الكنعانية… ولكن الملاحظة الهامة التي سجَّلها المؤرخون الاغريق (ومنهم هيرودوتس، ابو التاريخ) هي ان هؤلاء التجار كانوا يرفضون تسميتهم الشمولية (كنعنانيين او فينيقيين) بل كانوا يفضلون التسمّي باسماء مدنهم (صيدونيون صوريون جبيليون واوغاريتيون… ) وذلك لامور:
1) ماضيهم من الاجتماع القبلي المحدود، من التنافس والتغازي في البوادي والصحاري العربية.
2) غياب فكرة القوم والقومية عنهم وعن امثالهم ومعاصريهم.
3 اقتصاد التجارة يؤدي حكما الى التنافس والتصارع والتكايد، بعكس اقتصاد الزراعة الذي يبعث على التعاون والتكافل والتعاضد في وجه عاتيات الطبيعة.
4) انعدام المواصلات البرية للتواصل والاجتماع البشري التكاملي.
لكل ذلك ينقل التاريخ عن “الفينيقيين” وعن معاصريهم انهم اكتفوا باقامة حكم الدولة – المدينة، من اثينا الى اسبارطة الى تدمر الى اوغاريت الى صور، ولم يهتموا باقامة امبراطورية، لا بحرية (كما يزعم كمال جنبلاط) ولا برية (كما يدعي آخرون). واذا كان فيليبوس المقدوني (ابو اسكندر) قد وحّد القبائل اليونانية بزعامته وقاد جيوشهم، وابنه الاسكندر، للتوسع شرقا، وبناء امبراطورية امتدت حتى الاسكندرية في مصر، فان فينيقيي المدن ساعدوا الاسكندر في التغلب على المدن الفينيقية الاخرى (مثال صيدا في حصار صور).
والخلاصة، ان هؤلاء المهاجرين ،عرب من شبه جزيرة العرب، سواء الحقت بهم “السامية” او غيرها، وسواء تناجزوا او تمازجوا ، تعاربوا او استغربوا . وبدعة “السامية” استحضرت في القرن التاسع عشر الاستعماري، لتشكل قطْعا او بتْرا حضاريا قوميا بين عرب اليوم وعرب الامس، بين الجذور والجذوع، والغرض الاساس هو:
1) اسقاط دعوى القومية العربية المعاصرة وطموحها للوحدة السياسية .
2) تمزيق القومية العربية بدعوى اليهودية السامية في فلسطين، والمارونية”الفينيقية” في لبنان.
وغدا قد “يكتمل النُقُل بالزعرور” بدعاوى لاحقة: دينية مذهبية من جهة، او اقوامية كردية او امازيغية مغاربية او فرعونية مصرية، او اشورية وبابلية في العراق، من جهة اخرى.وإن غدا لناظره قريب، وانهيار البناء تزلزله حجرة.
ففي عالم القوميات الممتدة، هل تستدركون الانهيار القومي العربي ايها الباحثون في التأريخ، او المتربعون على سُدَد الحكم؟.. فـ”في الاتحاد قوة” !!