الحوار نيوز – خاص
ألقى وزير الثقافة القاضي محمد وسام المُرتَضى كلمة لبنان في الدورة ٤٢ للأونيسكو والتي انعقدت في العاصمة الفرنسية باريس ،مستهلًا كلمته بتخصيص دقيقة صمت من أصل الوقت المخصص لكلمته.
وقال: ” التزاماً بقيم الاونيسكو وارضاءً للضمير، ولأنّ الصمتَ أحيانًا أَبلَغُ من الكلام، سوف أُخصِّصُ دقيقةً من الوقت المخصص لي في وقفةٍ صامتة حداداً على أكثر من عشرة الآف ضحيةٍ للإبادة المتمادية ضدّ غزّة، نصفُهم من الاطفال، وأدعو من يرغب منكم بالمشاركة لأنّ يتفضل بالوقوف.”
وكان لافتًا تفاعل رؤساء الوفود المشاركة مع كلمة لبنان حيث قوطع المُرتَضى مرات عدة بالتصفيق وقوفًا ،وتقدم رؤساء الوفود العربية منه بعد انتهائه من إلقاء كلمته لتهنئته ومن بينهم أعضاء في وفود فقدوا أعزاء لهم في الإعتداءات الوحشية على غزّة.
نص الكلمة
قال المرتضى:
” الأونيسكو حروفٌ ستةٌ كالجِهات السِتّ ، تبدو كأنها خلاصةُ الأبجديات، ما برحت منذ خمسةٍ وسبعين عامًا تغمرُ من كل جانبٍ فضاءاتِ الثقافة والعلم والتربية في هذا العالم المتعدّد الحضارات والرؤى والانتماءات، وتسعى عبر الخطط التي تضعها والمشاريع التي تنفذها إلى تمتين التعاون الدولي في مهمة إرساء السلام وتحقيق التنمية المستدامة لدى جميع الشعوب والمجتمعات”.
وتابع:”ولقد كان من حظِّ لبنان أن يكون من أوائل الدول المنضمة إلى هذه المنظّمة فور تأسيسها، وأن يستضيف أوّل مؤتمر تعقده خارج مقرّها، وأن تكون له إسهاماتٌ بيّنةٌ في جميع الميادين التي تُعنى بها الأونيسكو، وأن يظلَّ على رغم الظروف القاسية التي مرَّ بها سابقًا ويمر بها اليوم، أمينًا على قيم منظمتكم، عاملًا على تحقيق أهدافِها. ذلك أنَّ وطنَنا تميَّزَ بصفتين أُطلِقتا عليه هما: بلدُ الحرف، والوطنُ الرسالة، ولا يُخفى ما لهاتين الصفتين من ارتباطٍ وثيق بالفكر وبالدور الذي تؤديه الثقافة في تحقيق الحريّة وبناء الحضارة الإنسانية، وهذا هو المعنى الحقيقي للثقافة ولوجود لبنان. “
واضاف:”في المقابل، وانسجامًا مع ما تنادي به وتعمل لتنفيذه، لم تتأخّر الأونيسكو مرةً عن مدِّ يد العون إلى لبنان في أزمنة الرخاءِ والمحن على السواء، من خلال النشاطات التي أقيمت عندنا ولا تزال تقام بالشراكة معها في مختلف القطاعات، وأيضًا من خلال إدراجِ مواقعَ لبنانيةٍ عديدة على لائحة التراث العالمي، آخِرُها معرضُ الرئيس الشهيد رشيد كرامي في طرابلس بشِمالِ لبنان، وتسجيلِ بعضٍ من مفردات التراث اللبناني غير المادي على لوائح الأونيسكو ذات الصلة، وكذلك في كارثة انفجار مرفإ بيروت في العام 2020، حيث كان لمنظّمتكم ولمديرها العام أودري أزولاي دورٌ إنساني كبير في تضميد الجراح الجسدية والنفسية التي لحقت باللبنانيين، وفي ترميم وإعادة تأهيل عددٍ من المدارس والمراكز الثقافية والتربوية في الأحياء المتضررة من عصف الانفجار. “
واردف:”هذا كله مدعاةُ شكر وتصميم لبنانيٍّ على تعميق الشراكة مع الأونيسكو. لأننا مؤمنون بأن الثقافة هي التي تحمي القيم وتضنع التنمية، فهي في أحد أبرز وجوهها، عمليةُ ترميم التاريخ بالكلمة واللون والنغم وسائر أدوات الإبداع، وعقدُ مصالحةٍ بين الماضي والآتي، من أجل إدارةِ المدنية المعاصرة إدارةً سليمة، تتولّى بثَّ الوعي داخل المجتمعات، بأن الثقافة في عمقِها نهجُ حياةٍ وطريقٌ إلى الحرية، واكتناهٌ لعناصر الهويتين الوطنيةِ والإنسانية القائمتين على حفظ التنوع وحماية حرية الرأي والتعبير؛ وعلى التمسك بالعدالة والحقّ والمساواة ومنع الظلم والعدوان كقيَمٍ إنسانيةٍ عليا ينبغي لها أن تسود جميعَ الناس من دون تفرقة أو تمييز”.
وأكد المُرتَضى أنَّ” هذه المفاهيم شكّلت على الدوام عناوينَ أساسية في المدى الثقافي الذي رعته وزارة الثقافة اللبنانية، أو ذاك الذي مارسه كثيرٌ من المبدعين اللبنانيين في الوطن والمغتربات، تاركين من خلال إنجازاتِهم وسيرِهم بصماتٍ واضحةً على مسار الثقافة العالمية، كشأن أمين معلوف الأمين العام الدائم الجديد للأكاديمية الفرنسية، الذي يمثل صورةً بهية عن المثقف اللبناني الكَوني، الحاملِ في نبضات قلمه تراثَ شرقه ووطنه، والعاملِ من خلال إبداعه الشخصي على ترسيخ البعد الإنساني العام في الأدب وتاليًا في الوجود الإنسانيّ أجمع. “
وتابعَ: لكنَّ خطابي اليومَ إليكم، باسم لبنان، ليس بكامله مشرقًا؛ بل هو حاملٌ كثيرًا من الجراح التي تنزفُ في قلبِ الوطن وقلوب المواطنين. فالضائقة المعيشية الناتجة عن الأزمة المالية والاقتصادية التي نزلت باللبنانيين منذ خريف العام 2019، ما زالت تتفاقم بفعل عوامل عديدةٍ، لا تبدأ بالحصار الفعلي غير المعلن على لبنان، ولا تنتهي بالأزمة السياسية التي حالت دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد سنة كاملة على شغور الكرسي الأول، وهذا ما أدى إلى تعطيل مسار الحياة الوطنية، وتعثُّرِ إقرار خطة التعافي التي يعول عليها اللبنانيون كثيرًا لإعادة الانتظام النقدي والاقتصادي في البلد. ويزيدُ الأمر تفاقمًا عبءُ النزوح السوري الذي لا مجال لإزاحته عن صدر لبنان إلا عبر حلٍّ جذري يتمثل في عودة جميع النازحين إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم في سوريا، تطبيقًا لمبادئ حقوق الإنسان التي يلهجُ بها صنّاع القرار في العالم على الدوام، لكنها لا تحترمُ إلا على وَفْقِ المصالح.
وعن الشراكة مع المنظمة قال المُرتَضى : ” إن لبنان الشريك المخلص للأونيسكو في تحقيق أهدافِها، يدعو المنظّمة والدول الأعضاء إلى إيلاء قضية النازحين أعلى درجةٍ من الاهتمام، لتخفيف العبء عن كاهل الوطن الصغير الذي لم يعد قادرًا على التحمل، ويخص بالنداءِ الدول العربية الشقيقة، التي لا تتأخّر عن دعم لبنان في أزماته، أن تقف إلى جانبه في هذه الأزمة غير المسبوقة. فلبنان يعوِّلُ كثيرًا على مؤازرته من قبل المنظّمة والدول الشقيقة والصديقة، عبر مشاريع وبرامج وشراكات على مختلف صعد الثقافة والتربية والعلوم والإعلام والاتصالات، وسائر الميادين السياسية والاقتصادية والتنموية، ووطننا مستعدٌّ لتلقف كلِّ عونٍ، لأنه لن يتخلى عن دوره الريادي في العالم، بالرغم من المحن التي يمرُّ بها. “
وعن العدوان الاسرائيلي على غزة قال المرتضى:” وهذا يقودني إلى الحديث بشكلٍ صريح في العدوان الوحشيِّ الإسرائيلي الذي يمارَسُ ضدَّ الفلسطينيين، لا منذ شهر تشرين الأول (أوكتوبر) الماضي فحسب، بل منذ ثمانين سنة حين تمَّ اغتصاب فلسطين، وهو يتكرّر بشكل يوميٍّ ضد أبناء الجنوب اللبناني على طول الحدود مع فلسطين المحتلة. إنَّ آلة التدمير الإسرائيلية لم توفّر في غزّة كنيسةً ولا مسجدًا، ولا مستشفى ولا مدرسة، ولا امرأةً ولا شيخًا ولا طفلًا، بحيث قارب عددُ الشهداءِ خلال عشرين يومًا فقط، عشرةَ آلاف شهيدٍ، أغلبهم من الاطفال وجميعُهم من الأبرياء المدنيين العزَّل، في ظلِّ تأييد رسميٍّ منافٍ للشرائع الدولية، سمح بتغطية هذه الاعتداءات الهمجية، بحجّة ردّة الفعل على نتائج طوفان الأقصى، فيما ينبغي لمن يتلطّى وراء هذه الحجّة لإباحة القتل اليومي، أن يعود إلى الفعل الأوّل الذي أنتج كل ردود الأفعال المتعاقبة من هنا ومن هناك، عنيت احتلالَ فلسطين وتهجيرَ أهلها الأصليين وتدمير منازلهم وحرمانهم من أبسط الحقوق الإنسانية.”
واضاف:” إنَّ مشاهد الدمار في غزة، وعيونَ الآف الأطفال التي انطفأت ضحكاتُها تحت وابل القذائف المحرّمة دوليًّا، وصراخَ الأمهات وهنَّ يفتِّشْن عن أشلاء أولادهنَّ وآبائهنَّ وأزواجهنَّ تحت الأنقاض، كلُّ ذلك لم يحرِّك ذرةً من شعورٍ بشري لدى جيش الاحتلال وقادته السياسيين والعسكريين وداعميهم الممعنين حتى اليوم في أفعال القتل والتدمير. لذلك، من على هذا المنبر أشيد، وأدعو إلى تبني موقف سعادة الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريتش في هذا الخصوص، ومواقف الكثير من المنظّمات الحقوقية الأممية، ومواقف دولة رئيس مجلس النواب اللبناني الأستاذ نبيه برّي، ومواقف الحكومة اللبنانية ودولة رئيسها الاستاذ نجيب ميقاتي، الداعية إلى وقف العدوان وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة المحاصر، وإلى حلّ القضية الفلسطينية بإعادة الحق إلى أصحابه، لأنَّ كلَّ احتلالٍ يولِّدُ حقًّا شرعيًّا بمقاومته حتى زواله.” معتبرًا أنَّ ” أزمة فلسطين جرحٌ في ضمير الإنسانية آن الأوان لكي يندمل باحقاق الحق ووضع حد للاحتلال وهمجيته وغطرسته”.
وختم المرتضى:
“البخورُ والبياضُ من معاني اسم لبنان في اللغات القديمة التي استظلت أغصانَ أرزه الأبيّ العريق. وطني سيظلُّ على الرغم من كلِّ شيء، أرضًا يفوحُ منها بخورُ الحرية، ويأتلّق في فضائها إباء المقاومة وبياض السعي الى إنسانية سويّة. القيمُ الأخلاقية والانسانية التي وردَتْ في مقدمة ميثاق الأونيسكو تفرِضُ علينا أن نكون مع قضية الحق وجرح الإنسانية النازف، أن نكون مع فلسطين. عشتم، عاشت الاونيسكو، عادت فلسطين حرّة من النهر الى البحر وعاش لبنان”