الفجوة الحضارية في الوعي العربي :أزمة تنوير وتنويريين(3)
آيات ونوس -الحوارنيوز
إن الفجوة الوجودية ودور الانظمة الاستبدادية في إغلاقها عبر إنتاجها في كل مراحل تاريخ المجتمعات العربية بأشكال وأدوات متجددة، شكلت عائقاً قاتلا لأي مشروع نهضوي تنويري، إنعكس سلبا على التجربة التنويرية لكبار المفكرين والمثقفين، الحالمين بالتغير والحرية ،واللحاق بركب التطور الحضاري، وأصاب الاحباط والعجز إرادة الفعل التنويري،
وضعف تأثيره على الوعي المعرفي الفردي والجمعي في المجتمع العربي.
هذه الشروط الموضوعية من إعاقة المشروع التنويري، في المجتمع العربي،
ارتبطت ايضا بخصوصية التجربة التنويرية وإشكاليتها، ومقدماتها المعرفية، ومنهجها العقلي في البحث ، وأدواتها المعرفية وأهدافها التنويرية، شكلت عائقا " إضافيا" امام نجاح تجربتها النهضوية، وضعف تأثيرها في الوعي العربي،
ويمكن إيجاز هذه المعيقات،
اولا: (غياب الهوية التنويرية الثورية):
التي لا تنتمي لأي سلطة ايديولوجية، اكانت فكرية، أو عقائدية دينية، او سياسية
وعدم تبني شعارها الجوهري، وهي ان لا سلطة تعلو على سلطة العقل في البحث والتقصي ولا سقف ولاخطوط حمراء،
ينطلق منها، غير تفكيره الحر وغايته في الكشف عن الحقيقة
الموضوعية والحيادية، والشفافية في تعقب أسباب تخلف الوعي العربي،
إن انطلاق اغلب المشاريع النهضوية، كان من مقدمات ميتافيزيقية اسطورية ودينية غيبية، ينظر لها على أنها مطلقة وثابتة ويقنية تحتكر كل المعرفة التطورية في الماضي والحاضر والمستقبل، ( ناسين اولا ") انها هي مرحلة تاريخية من مراحل تطور الفكر الانساني،
وانها مثلت نمطا لتفكير أناس وحاجاتهم واسلوب عيشهم في إدارة واقعهم ، وتنظيمه ، بما يتلائم مع معطيات عصرهم المادية والفكرية والروحيةوالثقافية، وأهدافهم وتطلعاتهم ، في الحفاظ على وجودهم
(ومتجاهلين ثانيا:) منطق الحركة العامة للعقل والتاريخ والمجتمع والطبيعة وقوانينها ، ودور النشاط الانساني الفاعل في وعي هذة الحركة، وتوجيهها في انتاج التراكم المعرفي والعلمي والقيمي، وهذا ماجعل الكثير من المشاريع التنويرية والنهضوية، تقع في متناقضات فكرية وتجريبة واقعية تطورية، متجددة دائما
ويديرونها عبر منهج وآليات ووسائل قديمة تراثية، تعتمد التوفيق بين النقل والعقل، تلك الآليات التي أنتجتها ظروف مرحلة تاريخية لها أهدافها الخاصة، اثبتت غالبيتها ضعف تأثيرها في التغير على مستوى وعي الفرد والجماعة والانظمة السياسية والدينية
واندرجت تحت عناوين الإصلاح الديني، أو السياسي الطوباوي، الذي لم يسلم أصحابة، من الاضطهاد والتكفير والعنف والقتل.
ان هذه المنهجية لايمكن نجاحها على كافة المستويات،
لان الاصلاح في النص الديني غير ممكنة التغير فيها، لانها تعتبر ثابتة ومطلقة وجاهزة، متضمنة برؤيتها، ومحتكرة لكل مراحل التراكم المعرفي في الماضي والحاضر والمستقبل، و التي لاتقبل التشكيك والتساؤل،
ولان التشكيك يعني هدم كل هذه المنظومة من اساسها
وهذا ماتحاربة بشدة الانظمة الدينية والسياسية لانها تضرب استمرار مصالحها واستمرارها
وثالثأ": عدم القدرة على الفصل بين مفاهيم الايمان، كحاجة مشروعة وضرورية للانسان للشعور بالطمأنية على وجوده ومصيره، وبين منظومة الدين كمنظومة تاربخية مرتبطة بالسلطة السياسية، تبسط سطوتها على العقل والمجتمع والتشريع والقوانين وتعرقل حقوق الانسان في التفكير والكشف والابداع وتطوير قوانينه التشريعية التي تلبي متطلبات حاجاته الاجتماعية وحقوقه وقيمه الانسانية،
إن التنوير ليس ضدد الايمان والعقيدة بحد ذاتها، أو أنه مشروع تخريبي لهدم الهوية الدينية والتراثية والقيمية
كما تروجه هذه النظم، وان التنوير هو، تنقية الايمان والحفاظ عليه وتوجيهه بقيم انسانية
فالانسان المؤمن لايحتاج الى شرعية من يدافع عن ايمانه الذاتي، والتنويري ليس هدفه انقاذ الدين، وانما الإضاءة على الحقائق وتعرية الاوهام والزيف، عن المعطيات الحضارية،
والتنوير هدفه حفظ الحق الانساني، وسحب البساط من تحت اقدام هذه الانظمة، وشرعيتها التسلطية على الفرد ومؤسسات المجتمع المدني، وضرورة عدم ربط القيم الاخلاقية والاجتماعية بضرورة استمرار النظام الديني لحفظ الامن الاجتماعي والوجودي والقيمي للانسان
هذا وهم من أوهام النهضة التنويرية، لإن قيام مجتمع مدني علماني يحفظ جميع حقوق الافراد، والتعايش الٱمن، تحت مظلة القانون في تحقيق الحرية و المساواة والعدالة لكل الافراد والاديان، وشرائح المجتمع
لذلك التنوير هو حرية العقل والجرأة والشجاعة والموضوعية في خلع لباس القداسة عن النظم الدينية، والايديولوجية الفكرية والاجتماعية، لتقصي الاسباب الحقيقية لتخلف الوعي العربي، وتعثره الحضاري، لتتوضح الرؤى التنويرية وتجيد ادواتها في الفعل التنويري على ارض الواقع، للمواجهة الحتمية، التي لا بد أن تقع، بدلا من تأجيلها بمبررات انتظار نضج الظروف الموضوعية، وعمليات الاصلاح لترميم وتجميل جثة هامدة مدفونة في مدافن التاريخ السحيق ومن رفوف شرائعه، ومعارفه التي لاتناسب إلا شروط عصرها وحاجأتها
و تبني القيم الانسانية والمعرفية والعلمية الحضارية المعاصرة
(ثانيا: الإختلافات والصراعات بين المشاريع التنويرية)
إن اختلافات اصحاب المشاريع التنويرية تبعا لإختلاف خلفياتهم الفكرية والعقائدية ومنهجهم واهدافهم، حول هذه الاختلافات، التي يمكن ان تغني المشروع النهضوي، وتوحد الجهود للمواجهة مع العدو الحقيقي للتنوير الى صراعات فكرية فيما بينهم، تعتقد كل منها، انها تملك المعرفة الحقة، لفرض مشروعها الفكري، ونفي الحق عن غيرها المتضادة معها في الفكر والمنهج
ان هذه الصراعات، تبدد جهود التنوير الفعالة على الارض،
وتضع الوعي الفردي والجمعي، في المجتمع امام تناقضات الحقيقة ومصداقيتها، والبحث عن بدائل اكثر امنا لوجوده ومصيره، والابتعاد عن خطاباتها ومعاركها،
مما يفسح المجال للمختبئين تحت سطح الوعي، وفي سراديب الخرافة والتعصب الديني،والفكرالعفن والديكتاتوري، المتأصل في البنية الذهنية في الوعي العربي، والمختبأ في أدراج النظم الدينية والسياسية والاجتماعية في التاريخ، يمكن أن يفترش ساحات الوعي بأي لحظة، والتجارب كثيرة في تاريخنا الماضي والمعاصر، الذي يعرقل دوما المشاريع النهضوية ويؤجلها ، ويزيدها تعقيدا وتشرذما، وصعوبة في استدارك مخاطرها، وأخذ الوعي العربي، الى منزلقات السقوط الحضاري
لذلك لابد من التكتل وتضافر الجهود التنويرية، على كافة المستويات المعرفية، فكرية وفلسفيةو علمية وفنية
لمواجهة تمدد الفكر المنغلق على ذاته ، والعنصري والشعبوي
والفوضوي العبثي، الذي سيبقي مجتمعاتنا ان تركت ساحات التنوير رمادية فى ادنى مستويات السلم الحضاري
(ثالثا: استجرار النموذج الغربي التنويري)
لاشك إن أي مشروع تنويري يكسب قوته الفكرية من خلال الانفتاح على التجارب النهضوية في كل المجتمعات الانسانية، وخاصة التي حققت انجازات حضارية فكرية ومعرفية وعلمية وتقنية، وانجازات انسانية على صعيد نظمها الاجتماعية والسياسية والتربوية،
وذلك لصقل تجربته التنويرية بأدوات ومناهج وطرائق تاريخية لاستقراء حركة القوانين العامة للتطور التاريخي في المجتمعات، ومدى الاستفادة منها لتجربته التنويرية في مجتمعه،
إلا إن أغلب المشاريع التنويرية
وقعت في فخ التعميم واستنساخ التجربة النهضوية الغربية،
في محاولة العودة للتراث الديني والفلسفي القديم لتنوير الوعي الفردي والجمعي
متناسية
اولا: ان لكل مرحلة تاريخية شروط انتاج معرفتها، ولكل مجتمع خصوصيته وهويته الثقافية والعقائدية والفكرية
فالزمن الذي قامت فيه النهضة التنويرية الاوربية بكل اشكالها، كانت هناك قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية حاضنة وحاملة لمشاعل النهضة لتحقيق اهداف ثورتها
ثانيا: لم يكن العلم قد ظهر بعد ، كقوة فاعلة في الوعي والمجتمع
مما جعل الإعتماد على التراث الفكري والفلسفي والديني
كحاجة ملحة لاستنهاض الوعي وإيقاظه لتحريك الفعل التنويري
بينما نحن في عصر تسارع الاكتشافات العلمية وتوسع نطاق العلوم الطبيعية والانسانية والتطبيقات التكنولوجية في ايصال الثورة المعرفية على امتداد الكرة الارضية
بينما ماتزال مجتمعاتنا مشلولة وعاجزة عن انتاج المعرفة بسبب فشل مشروع البرجوازية الوطنية العربية في انتاج ثورتها المعرفية بفعل تبعية الانظمة الاستبدادية للقوى الرأسمالية العالمية
لذلك كان من الضروري ربط المشروع التنويري العربي بأدوات العلم وثورته المعرفية ، بدلا من الاعتماد على طريقة الفكر النهضوي الاوربي الذي تجاوزه التطور الحضاري، في العودة للتراث الفكري والديني لإيقاظ الوعي في مجتمعنا
ووضع تجربة التنوير الغربي في مواجهة ، مع الفكر والتراث الديني العربي الاسلامي، ورفض منجزاته المعرفية التي ادت الى ثورته العلمية والمادية والمجتمعية، والإكتفاء بمنجزاته المادية والعيش متطفلا على تقنياتها
مما ادى الى ضعف أثر التنوير على الوعي والمجتمع العربي
واستغلال الانظمة الدينية والسياسية في تشويه المنتج الحضاري الغربي الفكري وشيطنة منجزاته الثورية على الصعيد النظم السباسية والاجتماعية العلمانية ،
وتشويه قيمه الاخلاقية والانسانية
رابعا: غياب ثقافة العلم عن المشاريع النهضوية:
إن ثقافةالعلم غائبة عن الوعي العربي و تعيش أزمة حقيقة ، ولايمكن النجاح لأي مشروع نهضوي معاصر دون تعميم تقافة التجربة المعرفية للبحث العلمي، للتصدي للتفكير الديني الذي يربط النشاط العلمي بمحدودية النص الديني، واختزال اهدافه بالفائدة المادية، لان النص الديني في الوعي العربي يتضمن كل معارف البشرية، ومن هنا تختزل الإكتشافات العلمية، وتفسيرها بمنطق الإعجاز العلمي وتسفيه الانجازات العلمية ومحاربتها، والهجوم على العلماء،
لتقيد العقل وعرقلته عن البحث والاكتشاف وتقصي الحقائق
ان غياب ثقافة العلم عن المشاريع النهضوية، والاهتمام بقضايا الارث الديني والثقافي، أضعف من قدرة العقل العربي على التفكير العلمي والموضوعي في مواجهة مشكلاته، والشعور بالعجز والاحباط عن اللحاق بركب التطور الحضاري ووقوعه لقمة سائغة، في شبكة العنكبوت الاستبدادية، لتحويل حياة الانسان، الى وصفة جامدة، من الاوامر النواهي، دون فعل ارادي،
ليقع فريسة لقوى العولمة التي توجهها قوى عالمية وتحويل وجوده، الى تقنيات وبرمجة سلوكه، يفقد فيها عقله ، وظائفة في التفكير المنتج والمبدع،
وختاما: التنوير ليس مشروعا نظرياً لتقصي الحقيقة فقط
وانما فعل خلاقاً يهدف للتغير في الفكر والواقع، لخلق شروط انسانية لبناء انسان، ومجتمع حضاري، له حضوره، في المجتمع الانساني يستوعب منجزات التراكم الحضاري ، ويشارك في إنتاجها.
وشكرا لكل من تابع مقالي
وانا لست باحثة، او مفكرة تنويرية،وانما هي رؤية بسيطة معرفية، وصرخة عقل هدفه البحث عن الحقيقة، والدفاع عن الحقوق والقيم الإنسانية التي من حقنا الحصول عليها، لنكون جديرين بالعيش، وفق طبيعتنا الانسانية.