رأي

العودة الى الطائف ملاذ اللبنانيين الأخير (محمد الجوزو)

 

القنصل محمد ابراهيم الجوزو – الحوارنيوز

 

عندما بلغ الإقتتال الأهلي في لبنان ذروته بين المعسكرين المتقاتلين وحتى داخل كل معسكر، وإقتناع العقلاء بإستحالة حسم الخلافات بالنار لمصلحة أي طرف من أطراف النزاع.

وبعد وصول بعض الدول والجهات الإقليمية والدولية إلى حالة يأس من الإستثمار في إقتتال اللبنانيين من أجل مصالح أمنية أو سياسية لها في لبنان، والى قناعة بأن هذه الحرب تحولت بفعل التدخلات الخارجية الى حرب عبثية تدور في حلقة دموية، وأنه لا بد من وضع حدٍ لها بالتزامن مع وضع إطار دستوري لولادة لبنان جديد قابل للحياة والتطور طبيعياً،

اتجهت الأنظار الى المملكة العربية السعودية، الشقيقة الكبرى والضنينة بمصالح لبنان واستقراره والتي لطالم دعت الى اعتماد الحوار لولوج باب الحل السياسي.

 

اتجهت الأنظار الى “المملكة” لأنها كانت على علاقة ودية مع معظم الأطراف وذات تأثير إقليمي ودولي، فتولت “المملكة”، وهي الأقدر، على استضافة مجلس النواب اللبناني إنفاذا لقرار مؤتمر القمة العربية غير العادي التي انعقدت في المملكة المغربية بين 23 / 26- 5- 1989 الذي اكد على “عروبة لبنان ووحدة أراضيه واستقلاله وإن أي حل لا يتم إطار الحفاظ على هذه العناصر الرئيسية لا يمكن أن يمثل حلاً حقيقيً للمشكلة اللبنانية، وإن الإطار العربي هو الإطار الطبيعي لحل الأزمة اللبنانية”.

وكما كان الأمر قبل نحو 33 عاما، ها نحن اليوم أمام خيار وحيد، لا بديل عنه بأن المرجعية العربية كانت وما زالت هي المظلة الأساسية للحل في لبنان، والحل هنا واضح لا لبس فيه: تنفيذ كامل بنود اتفاق الطائف برعاية عربية.

 

منذ ٣٣ عاماً بادرت “المملكة” بقيادة المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود الى محاولة حقن الدماء و إنهاء الحرب الاهلية في لبنان، إنفاذا لقرار القمة العربية، عبر دعوة أعضاء المجلس النيابي “لإعداد وثيقة الإصلاحات السياسية التي يمكن أن تعتبر أساساً للحوار والوفاق الوطني حتى يقرها مجلس النواب اللبناني في أول إجتماع” وفق ما جاء في القرار عينه.

إن مجموع البنود الإصلاحية التي تضمنتها وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في اللقاء النيابي بمدينة الطائف السعودية بتاريخ 22/10/1989 والتي صدّق عليها مجلس النواب في جلسته المنعقدة في القليعات بتاريخ 5/11/1989 ومن ثم تكرّست هذه الإصلاحات بموجب قانون دستوري صدر بتاريخ 21/9/1990، من شأن تنفيذها كاملة دون أي استثناء، أن تنقل النظام السياسي في البلاد من نظام طائفي وملي مهدد بالإشتعال عند كل خلاف، إلى مصاف الدول المؤسساتية، دول المواطنة الخالصة والقانون.

بعض هذه البنود الإصلاحية قد نُفذ مشوهاً ومحرفاً كبنود حل الميليشيات وعودة المهجرين واعادة تنظيم الإعلام الخ…، فيما البنود الأكثر أهمية والأكثر إصلاحية، بقيت معلقة ممنوعة من التنفيذ.

ومن باب التذكير سأورد بعضها وفق التسلسل الذي جاء في الوثيقة:

-     إعتماد الإنماء المتوازن (مقدمة الوثيقة – مقدمة الدستور)

-     العمل على تحقيق عدالة إجتماعية شاملة من خل الإصلاح المالي ولاقتصادي والاجتماعي. (مقدمة الوثيقة – مقدمة الدستور)

-     وضع قانون إنتخابي خارج القيد الطائفي.

-     إنشاء مجلس للشيوخ.

-     إلغاء الطائفية السياسية. (على مراحل وبعد تأليف لجنة لدراسة الموضوع برئاسة رئيس الجمهورية).

-     إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الإنصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الشعب والمؤسسات.

-     تدعيم اسقلالية القضاء. (السلطة القضائية المستقلة).

-     توفر العلم للجميع وجعله إلزامياً في المرحلة الابتدائية على الأقل.

-     إعادة النظر في المناهج التربوية وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطني، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية.

 

هذه الاصلاحات أثارت حفيظة القوى الطائفية المتمسكة بإمتيازاتها داخل النظام، ومثّل هذه القوى الجنرال ميشال عون رئيس الحكومة العسكرية آنذاك والذي وجه سهامه بوجه هذا الاتفاق معتبراً أنه جاء ليسلب صلاحيات رئيس الجمهورية، فيما قوى أخرى وافقت على مضض بإنتظار تغيرات إقيمية تعيد الأمور الى سابق عهدها!.

 

لم تنجح الايادي السود بإغتيال إتفاق الطائف، اذ وضع موضع التنفيذ وكان الزخم الأساسي لهذه الورشة الدستورية مع وصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى لبنان ليتولى رئاسة ثاني حكومات الطائف، ومباشرة تنفيذ ما يمكن من بنوده وذلك بالتزامن مع اطلاق ورشة إعادة إعمار ما دمرته الحرب الاهلية.

 

لم يأت هذا “الاتفاق” ليقصي أيا من مكونات المجتمع اللبناني بل جاء ليعالج الخلل  والتعارض بين الديموغرافيا اللبنانية التي تغيرت ما بين العامين ١٩٤٣ و ١٩٩٠ ونظام حكم آحادي لم يعد صالحاً وصار سبباً للإنقسامات ومنع تطور بنية الدولة لتحاكي المتغيرات الطبيعية، اذ لا يمكن المضي بنظام رئاسي مطلق مع إمتيازات طائفية مطلقة أيضا.

إن أهمية “الطائف” أنه وضع آلية ديمقراطية لضمان تطور النظام نحو دولة المواطنة والقانون. وأدخل كل الأعراف الصالحة والتي تشكل قلقاً للبعض في متن الدستور ولا موجب لأي أعراف بعد “الطائف” بإستثناء طائفية الرئاسات الثلاثة.

 

 

لقد شكل اتفاق الطائف مدخلا لمعالجة أزمة النظام السياسي على قاعدة الشراكة الوطنية ووضع لبنان على سكة البلدان الديمقراطية الطبيعية، لا بلدان الفرادة والإستثناءات والأنظمة المركبة (طائفي – ديمقراطي- توافقي).

 وهذا تماماً ما جعل جميع المكونات العاقلة تشعر بأنه اتفاق منصف لا غالب فيه ولا مغلوب، فالجميع قدم تنازلات لمصلحة منتصر واحد هو لبنان.

 

لم تنفك بعض الجهات الداخلية اللبنانية تصوّب بإتجاه اتفاق الطائف ،تارةً تحت شعار صلاحيات رئيس الجمهورية (الإمتيازات الطائفية ضمناً)، وطورا من منطلق الحديث عن مؤتمر تأسيسي جديد، في حين أن هذه الجهات نفسها شاركت منذ اكثر من عقد ونصف من الزمن في السلطة، ليتبين لاحقا أن بعض هذه الفصائل قد وافقت على المشاركة بالسلطة لفرملة “الطائف” لا إيمانا بتنفيذه!

لقد شكل الرئيس الشهيد رفيق الحريري في السلطة ضمانة رئيسية للإستقرار العام لاسيما الإقتصادي، فضلا تأسيسه لمدرسة الإعتدال، ما أهّله ليشكل نقطة إلتقاء مختلف القوى على تناقضاتها، وهو بهذه الصفة كان ضمانة لتنفيذ بنود اتفاق الطائف تدريجاً.

لقد شكل استشهاده ضربة لإتفاق الطائف، وبعد التطورات الأخيرة داخلياً وإقليمياً، يمكن القول إن إغتياله كان محاولة لإغتيال “الطائف” وللبنان بدستوره ووحدته.

إن تنفيذ كامل بنود اتفاق الطائف حاجة وطنية وضرورة لضمان الاستقرار العام، فهل يمكن تنفيذ هذه البنود الإصلاحية من دون قوى مؤمنة فعلا بالطائف؟

* عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي

*بالتزامن مع صحيفة اللواء

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى