صحةمنوعات

العلاج الكيماوي ما بين فانتازيا الموسيقى والنحت والكابوشينو (هدى سويد)

 

هدى سويد*  ـ إيطاليا- الحوار نيوز

يبدأ الصباح بالتلكؤ أو التهيؤ اللذين يصيبان مرضى الأمراض السرطانيّة، ممّن يتلقون العلاج الكيماوي في كل من مستشفى كارارا وماسّا في المحافظة ، شأنهم شأن المرضى في المستشفيات الإيطاليّة الأخرى .

يتوافد المرضى حسب توقيت معالجتهم ، يُصاحبهم فرد من ذويهم ، أو قد يرافق “من لا حول لهم ولا قوة ” عناصرمن الصليب الأحمر، وأحيانا نجد بعضهم دون معيّة أحد، إن كانت تخولهم صحتهم.

التدقيق الضروري في السجل عند مدخل المستشفى ، للتأكد من وجود إسمي المريض والمصاحب له ، يترك نوعا من خشية مزدوجة ، إذ يرخي لدى المريض أحيانا شعور الدخول إلى سجن لا مفر منه ،أو ينتابه تشاؤما بصعوبة الحصول على العلاج إن سقط اسمه سهوا (وهذا ما لا يحصل) ، أمّا  المرافق فيصاحبه قلق بعدم الموافقة على دخوله.

تُلحظ الحركة الناشطة في ممر قسم العلاج الكيماوي عند انطلاقته كل صباح:

حركة الأطباء المخوّلين المُختصين ، قسم السكرتاريا، المرضى الذين يباشرون بفحص دمهم للتأكد من قدرتهم على تلقي العلاج ،غائبين بصمتهم بانتظار القرار الحاسم، إياب وذهاب الممرضات بنتائج فحوصاتهم ،غرفة انتظار المرضى الجدد الذين يتسمرون في مقاعدهم لغاية مناداتهم بأرقام كي تتمّ معاينتهم .

رئيس قسم العلاج الكيماوي الدكتور أندريا مبرين، الذي رافقني في جولتي داخل المستشفيين قال :” نتلقى على مستوى محافظة ماسّا كارارا سنويّا   1200 حالة جديدة لمرضى داء السرطان، ويتلقى حوالي 1000حالة العلاج الكيماوي معظمها تتعلق بالرئتين، الثدي، البنكرياس والقولون، بينما يتلقى هذا العلاج يوميّا في إيطاليّا ألف مريض بشكل عام “.

ملاحظتان ملفتتان :

الأولى مُلصقة على الباب الزجاجي للغرفة تُحظر الخروج إلى الشرفة المُطلة على المدينة وجبالها الرخاميّة !  

أمّا الثانية فتدعو للتقيد بالهدوء والإنتظار مُشيرة : أنت لست وحدك المُنتظر.

الرسوم واللوحات تزين الجدران ، يتوسط البيانو المساحة ، تعلوه جملة “واهبو الموسيقى”، بينما تتوزع التماثيل الرخاميّة البيضاء عند المدخل تُشعر المرء بأن ثمة بردا.

الدكتور مبرين إضافة لنجاحه في مهنته وحواره الدائم مع مرضاه في الغرف أو الممرات، يتوجه إثر تفرغه نحو البيانو ليعزف تاركا أصداء عزفه تتناغم في أرجاء القسم وغرف المرضى ، أخبرني عن  قصة “واهبي الموسيقى” : “شغفي وزميلي موريسيوكونتوري بالموسيقى كان عاملا في انطلاقة الفكرةعام 2008 ،ساهم بها معرفتنا بالمريض أندريه لودوفيجي الخبير في تنظيم الحفلات الموسيقيّة الكلاسيكية ، وإجابة لطلبنا أقام لنا عبرمجموعة موسيقيين الحفلة الأولى في العام 2007  تمكّنا من ريعها شراء أول بيانو(بلغ عدد الحفلات 400 حفلة ). وتتشكل الفكرة من أطباء، مرضى وممرضين متطوعين التي انتشرت ابتداء من مدينة كارارا في عدد من المستشفيات الإيطالية ، بهدف خلق علاقة بنّاءة ما بين الطبيب والمريض ،  وقد بيّنت دراساتنا  أن المشاركة هذه ، ينتج عنها ثقة ما بين المريض والطبيب وبالتالي تقبل العلاج بصورة أكثر إيجابيّة “.

 أذكر في هذا السياق ، أن الدكتور الإيطالي أميليانو توزو الذي درس وتخرّج عام 1998 في علم البيولوجيا ، استكملها عام 2008  بالبيولوجيا الإنسانيّة على قواعد الخلايا الجزيئية ، متعمقا بالموسيقى التي يهواها تحديدا البيانو ،ووصل إلى نتائج على مدى تأثير الذبذبات إيجابيّا على خلايا مرضى السرطان.

أميليانو يرأس مركزا للبحوث “البيوموليكولير”، يشارك في مؤتمرات عالميّة ، له أكثر من ألبوم موسيقي تأملي ، وتُستخدم موسيقاه أثناء الجراحة في عدد من المستشفيات الإيطالية والعالم ، صدر له عام 2023 كتاب بعنوان “علاقة الموسيقى بخلايانا “.

***

قُبيل المباشرة بعلاجه ، يتسرب جسد باولو المظلّي (مهنته) بتأن ما بين الكرسي والبيانو، يكاد رأسه يسقط فوق أصابعه من شدة انخراطه وانسحابه ، لا يبالي بالضجيج بل قد يدفعهم عزفه إلى الهدوء أحيانا.

ما يتم اختياره من العازفين ،تحديدا المرضى ، كما لاحظت  إجمالا، مثير للمشاعر الإنسانيّة ، كمقطوعة “كانت النجوم مُشرقة” ل”بوشيني”لما تتضمنه من رغبة وتعلق بالحياة .

يدخل المرضى إلى أسرّتهم التي تحمل أسماءهم ز نظرة سريعة وديعة وأليمة ما بينهم وبين ذويهم ، حين تدعو  ممرضة المرافقين إلى الإنصراف لغاية انتهاء العلاج الذي قد يستدعي أحيانا أكثر من ساعة حسب الحالة  وما يطرأ من معوقات .

في الداخل اطمئنان المرضى ما بينهم ، قد تنمو معه صداقات ورسائل “واتسابيّة” فيما بعد .

في الداخل علاج يُسمح خلاله بتناول ما هو ممنوع خارجه من طعام .. هناك من يتقبّل  منتهزا فرصة علاجه ، وهناك من يفتقد الشهيّة فيكتفي بكوب ساخن من ال”كابوشينو” الإيطالي المعروف ـ حليب ساخن مع قهوة ـ يحمله قريب له من كافتيريا المستشفى .

***

خارج القضبان سلالم تؤدي إلى مدينة توسكانيّة، ذات جذور تاريخيّة لما قبل الميلاد وإن كانت الحاليّة تعود للحقبة الرومانيّة (تُقدر مساحتها بحوالي 71ونيف متر مربع وحوالي 59.764 نسمة) فيها معارض ومحترفات تشكيلية ونحتية، أكاديمية معروفة عالميّا مختصة باالفنون الجميلة والنحت نظرا لوجود الجبال الرخاميّة البيضاء ، أتاها ميكايل أنجلو كي يستخدم رخامها في أعماله النحتيّة ، أوغيره من الفنانين الإيطاليين والعالميين  المشهورين .

أمضي ترافقني التماثيل ، الأزقة بمحلاتها وبحوانيتها ، يستوقفني صف زبائن  ينتظرون دورهم لشراء البيزا و”الساخنة، الساخنة” ـ طبق محلي يُسمى أيضا فاريناتا في جنوى مصنوع من الحمص المطحون المجبول بالماء والزيت ـ إنه محل “تونوزي” الشهيرـ مُسمى باسم العائلةـ حيث “لا تستسلم” صاحبته فرانكا التي تتجاوز ال 96 عاما كما يقول ماركو( أحد الزبائن) ، في إعداد البيزا الشهيّة أمام “جمهورها” طوال النهار دون حصر تحضيرها وبيعها  مساء.

استمر وأصل إلى ساحة الأعشاب التي يعلوأحد جدرانها عبارة “لا تتركوا المدينة” بمُحاذاة رسم أفريسكي بمساحة 200 متر مربع ، عمل على تنفيذه ستة فنانين للمقاومة المعروفة فرانشيسكا رولا  (توفيت عام 2010) غامرت بحياتها مع عدد من النساء ضد الاحتلال النازي في السابع من يوليو 1944.

على المفترق كاتدرائية المدينة ، تستضيف خارجها معرضا بديعا لعمل نحتي ضخم يعكس قوة الإنسان .

على مقربة أبرز ساحات المدينة هي ساحة “ألبيريكا” يتوسطها تمثال لأميرة كارارا”ماريا بياتريس ألبيريكا “، تحيط بها البيوت التاريخية الملونة ، المحال ، المطاعم والمقاهي.

 قلق المُستبعد على من تركه هناك لا يفارق جولته في المدينة ، وانتظار استدعائه هاتفيّا في أية لحظة للعودة نحو المستشفى جريا.

أجلس في مقهى قبالة تمثال الساحة .فوق الطاولة فنجان الكابوشينو الأبيض والأسود الساخن . الأبيض والأسود إسمه حلو ومر، اسمه سينما .اسمه كابوشينو.

فرانكا والبيتزا
بيت أثري
من أعمال المعرض النحتي
المطاعم والمقاهي
ساحة البيريكا ويبدو تمثال أميرة المدينة
تمثال في المدينة وتبدو خلفه جبال كارارا
احدى الحفلات الأخيرة في المستشفى
صالة إنتظار وتبدو داخلها تمائيل الرخام

*هدى سويد صحافية وكاتبة لبنانية تعيش في إيطاليا. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى