د. عدنان عويّد – الحوارنيوز – خاص
العقل في سياقه المنطقي، هو مجموعة المعارف والمهارات التي اكتسبها الإنسان تاريخياً من خلال تعامله مع الظواهر الطبيعية والاجتماعية المحيطة به، بناءً على ما قدمته له الحواس من مشاهدات، وما قام به هو من استقراء واستنتاج وتحليل لهذه المشاهدات أو الظواهر وإعادة تركيبها اعتماداً على المواقف الداخليّة النشطة لديه من عواطف وتخيل ومهارات عقليّة، التي اكتسبها أيضاً تاريخيّاً عبر علاقته مع الطبيعة والمجتمع. فالعقل إذن في ابسط صوره وفق هذا المفهوم هو المعارف المكتسبة تاريخيّاً.
أما العقلانيّة: فهي منهج في التفكير، أو موقف عقليّ جدليّ نقديّ، يمارسه العقل عند توظيف معارفه التي اكتسبها من خلال نشاط الإنسان الماديّ والروحيّ تاريخيّاً للموصل إلى حقائق الظواهر التي تحيط به أو ينشط داخلها، فهناك فرق كبير عند توظيف العقل كوسيلة أداتيّه (العقل الأداتيّ) – على سبيل المثال- خدمةً لمصالح قوى اجتماعيّة محددة لا يهمها الجانب الإنسانيّ الإيجابيّ في دور أو أداء العقل، كالقوى المُسْتَغِلَةِ، التي يكون دور العقل في نشاطها المادي والروحي، هو تغييب الوظيفة الإنسانيّة المنوطة به كما أشرنا قبل قليل، واقتصار وظيفته على العمل داخل اقتصاد السوق أو المصنع او المؤسسة، لتحقيق الربح أو المنافع الماديّة والمعنويّة للحامل الاجتماعيّ له.
أمام هذا الموقف المنهجيّ والمعرفيّ للعقل والعقلانيّة، نعود لنجيب على السؤال موضوع بحثنا هنا وهو: ماذا عن موقع العقل والعقلانيّة في الفكر العربيّ الحديث والمعاصر؟
على العموم نستطيع القول: إننا أمام غياب أو عدم حضور للفكر العقلانيّ النقدي الذي أنتجه فلاسفة العصور الوسطى في تاريخنا العربيّ الإسلاميّ منذ أن أصدر الخليفة المتوكل أمره أو مرسومه القاضي بمحاربة العقل والعودة إلى النقل عام (232) للهجرة، بعد أن فسح الخليفة المأمون المجال للفكر المعتزليّ (العقلانيّ) أن يأخذ دوره ومكانته في التعامل مع النص الديني والواقع الاجتماعي معاً، وخاصة في الحياة الفكريّة والفقهيّة بعد إصداره مرسومه الذي يدعو فيه إلى محاربة النقل واحترام العقل عام (212) للهجرة. فمع مرسوم المتوكل المناهض لمرسوم المأمون، أي المناهض للعقل، بدأ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ يأخذ مكانته في الساحة الثقافيّة والفكريّة والفقهيّة عموماً مع “ابن حنبل” وكل من آمن بفكره منذ ذلك التاريخ حتى اليوم.
إذن مع هذه الردّة الفكريّة السلفيّة التكفيريّة التي جسدها “المتوكل” وابن حنبل وتياره، انحسر دور العقل والفكر العقلانيّ ليسود منذ ذلك التاريخ حتى اليوم فكر النقل المشبع أكثره بالأسطورة والخرافة والكرامة واللامعقول، واستمرار كل ما اشتغل عليه فقهاء العصور الوسطى من قضايا تهم ذلك العصر، هو المنطلق الوجودي والمعرفي لعصرنا الحاليّ واعتبار كل جديد تفرزه معطيات عصرنا ولا يجد ما يُشرعنه وفقاً لأصول الفقه التي حددها الشافعيّ وأخذ بها ابن حنبل وتياره ومن يؤمن به من المتكلمين كالشافعي الرافض للعقل النقدي، هو بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نعم.. لم يعد مسموحاً الاشتغال على العقل النقدي عند التعامل مع الواقع والعمل على النهوض به، بقدر ما ستخدم العقل الأداتي الذي عملوا وما زالوا يعملون عليه من أجل تثبيت ما قاله السلف الصالح ومارسوه وليس للحكم عليه كما يقول الشافعي، إلى أن بدأت عمليّة الانفتاح على الغرب والحضارة الغربيّة، هذا الانفتاح الذي ظل في الحقيقة قائماً أو محصوراً على النخب ولم يتحول حتى اليوم إلى ثقافة شعبيّة.. ومع ذلك لا يمكننا إنكار ما حققته هذه النخب المثقفة والمتعلمة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى اليوم على كافة مستويات الساحة العربيّة، من خلال ما أوجدته من صحف ومجلات ودور نشر وأحزاب ذات توجهات تقدميّة، أو من خلال وجودها في مواقع عملها الحكوميّ المؤسساتي أوالإداريّ، رغم أن كل ما كانت تمارسه من نشاط تنويريّ كان يحسب عليها، وقد تدفع ثمنه باهظاً من قبل المؤسسات الدينيّة المتحكمة بهذه الدرجة أو تلك بناءً على قوة التأثير التي تتمتع به هذه المؤسسات الدينيّة على القرار السياسيّ للكثير من الدول العربيّة، ونحن لن ننسى ما جرى لسلامة موسى، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وفيما بعد لفرج فوده، وحامد أبو زيد، من قبل المؤسسات الدينيّة في مصر، ولجلال صادق العظم في لبنان وغيرهم في العديد من الدول العربيّة، وسكوت السلطات الحاكمة في هذه الدول العربيّة عن مواقف هذه المؤسسات الدينيّة على محاربة الفكر العقلانيّ وحوامله الاجتماعيّة من النخب المثقفة، وهذه الموقف العدائيّ للفكر العقلانيّ التنويري هي امتداد في الحقيقة للمواقف العدائيّة ذاتها التي اُتُخِذَتْ ضد غيلان الدمشقي، وجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وابن المقفع، والكندي، وابن خلدون، وابن رشد وغيرهم الكثير، الذين كانوا ضحيّة لرجال أو مشايخ الفكر السلفيّ الوثوقيّ الاستسلاميّ القائم على النقل.
نقول: رغم كل الحصار الذي فرض على الكتاب العقلانيين التنويرين العرب في تاريخنا المعاصر، والاتهامات التي وجهت لهم من قبل أعداء التيار العقلانيّ، إن كانت هذه الاتهامات ذات طابع دينيّ تكفيريّ، أو سياسيّ تخوينيّ، أو أخلاقيّ تهتكيّ. إلا أن التيار التنويريّ العقلانيّ مارس تحديه للقوى السلفيّة الوثوقيّة الاستسلاميّة، وكانت كتابات حوامله الاجتماعيّة وكتبهم مليئة في قضايا التنوير والحداثة. لقد اشتغلوا سياسيّاً على المطالبة بضرورة تطبيق الدولة المدنيّة ومفرداتها من ديمقراطيّة وعلمانيّة، ودولة القانون والمؤسسات، والمواطنة، ومحاربة الاستبداد السياسيّ.. كما اشتغلوا على فكرة الحريّة في بعدها الاجتماعيّ والفلسفيّ، فطالبوا بتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الاخر، واشتغلوا على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعيّة ومحاربة الاستغلال، ونشر التعليم ومحو الأميّة، ومحاربة المرجعيات التقليديّة من طائفيّة وعشائريّة ومذهبيّة..
إن هذه القضايا التي اشتغلوا عليها، وجد الكثر من مفرداتها عبر القرن العشرين حضوراً في الساحة الثقافيّة والمؤسساتيّة استطاعت أن تؤسس في الحقية لمشروع حداثي، رحنا نلمسه من خلال تعليم المرأة ودخولها في مجال العمل، ومن خلال تشكل الأحزاب وتعدد توجهاتها الفكريّة، مثلما وجدناها في الحركات السياسيّة الكثيرة ووصول الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة إلى السلطة كالناصريّة والبعثيّة وغيرهما، وما حققته هذه الأحزاب عند وصولها للسلطة من دور في تطوير المجتمع والدولة، مع تأكيدنا بأن الكثير من قادتها حكمتهم فيما بعد شهوة السلطة، الأمر الذي حول دول أحزابهم إلى دول شموليّة مستبدة، جاء حراك الربيع العربي ليبين عوراتهم وفسادهم وابتعادهم عن مصالح الشعب.
على العموم يظل التساؤل المشروع في بحثنا هذا هو، أين موقع الخطاب العقلانيّ العربيّ في ظل تحديات التطرف والتخلف والتفاهة في الساحة الفكريّة العربيّة المعاصرة.
إن من يتابع حركة الفكر العربيّ العقلانيّ في الساحة الثقافيّة العربيّة، يجد كما بيّنا في موقع سابق، أن هذا الفكر قد ارتبط منذ بداية طرحه على الساحة الثقافيّة العربيّة الحديثة والمعاصرة، بالنخب المثقفة حتى منتصف القرن العشرين، وخاصة النخب الأوائل منهم الذين حاز معظمهم على شهاداته العليا من جامعات الغرب. وكان لهم الأثر الكبير على طلابهم في الجامعات العربيّة، حيث تخرج من بين أيديهم مئات آلاف الطلاب والطالبات على كافة المستويات الفكريّة، الفلسفيّة منها والأدبيّة والفنيّة والتاريخيّة، وحتى في المجالات العلميّة الأخرى.. أي على مستوى الفيزياء والكيمياء والهندسة والميكانيك وغير ذلك، حيث رحنا نجد أفكار الحداثة وخاصة في العلوم الإنسانيّة التي رافقت عصر الثورة الصناعيّة في أوروبا تنتشر بين صفوف الطلبة وعشاق المعرفة، إن كان على المستوى الفلسفيّ أو الفني والأدبي. فهذه الأفكار الفلسفيّة أخذت تُدرسها أقسام الفلسفة وعلم الاجتماع في العديد من جامعات الدول العربيّة، كفكر فرانسيس بيكون، ورينيه، وديكارت، وهوبس، وسبينوزا، ولوك، أو فكر رواد الفلسفة الانكليزيّة، مثل بريكلي، وهيوم، أو فكر الفلاسفة الألمان كاليبنتز وليسنغ، وفيما بعد هيجل وفورباخ وفيورباخ وماركس وانجلز، كما تأثروا كثيراً بأفكار فلاسفة عصر التنوير الفرنسيّ، كفكر مونتسكيو، وكوندياك، وديدرو، وروسو وريكاردو وهلفينيوس وفولتير.. الخ.
ومع مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الأولى والثانية، راحت أفكار مدارس ما بعد الحداثة تغزو الساحة الفكريّة العربيّة أيضاً على كافة مستوياتها الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة، حيث رحنا نجد من يروج للوجوديّة كعبد الرحمن بدوي، وللمدرسة الوضعيّة والوضعيّة الحديثة كزكي نجيب محمود، وللمنهج الماديّ التاريخيّ كمحمود أمين العالم والطيب تيزيني وحسين مروة، وللظاهراتيّة كحسن حنفي وغيرهم الكثير ممن تبنى الماركسية أيضاً منهجاً في التفكير، وكذلك وجدنا الفكر الديكارتيّ ومنهجه، عند طه حسين وجلال صادق العظم.. في الوقت الذي رحنا نجد فيه أيضاً الفكر الإسلاميّ التنويريّ يأخذ دوره الواسع في إعادة قراءة النص الدينيّ كما فعل حسن حنفي والسيد القمني وماجد الغرباوي وهادي العلوي والجابري ومحمد عماره وأركون، وحسين مروة والتيزيني، مثلما وجدنا التيارات الفكريّة السياسيّة بمناهجها الليبراليّة عند العروي وياسين الحافظ والياس مرقص. ولم نعدم الفكر المابعد حداثويّ عند علي حرب، أما في الأدب فقد كان للفكر الغربيّ ومدارسه الدور الكبير على الأدباء العرب، حيث انتشرت المدارس الأدبيّة كالواقعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والرمزيّة والبنيويّة والوضعيّة والوضعيّة الحديثة وغيرها. وكان للشعر بشكل خاص تأثره الكبير بالمدارس الغربيّة، حيث شق السياب ونازك الملائكة وأدونيس ومدرسة الشعر الطريق لهذا التوجه الحداثي. وهذا وجدناه في الفن أيضاً ومدارسه كالمدرسة الرومانسيّة والواقعيّة والرمزيّة والتكعيبيّة والتعبيريّة والسوريالية.. الخ.
ملاك القول: يمكننا التأكيد هنا بأن الفكر العقلانيّ لم يهجر الساحة الثقافيةّ العربيّة كليّاً رغم هجرة العديد من حوامله الاجتماعيين إلى أوروبا، بسبب محاصرتهم من قبل السلطات الاستبداديّة في العديد من الأنظمة العربيّة ومؤسساتها الدينيّة الرجعيّة التي حاربت الفكر التنويريّ العقلانيّ، وعملت على تشويه العلمانيّة والديمقراطيّة، عندما حولتهما إلى مفاهيم شكليّة تتاجر بها أمام القوى التنويريّة في الداخل والخارج، بينما كانت تعمل في السر والعلن على نشر الفكر السلفيّ الظلاميّ التكفيريّ القائم على النقل وتسطيح العقل. وقد جاءت ثورات الربيع العربيّ رغم كل فوضويتها وعدم عقلانيتها وانضباطها فكريّاً وسلوكيّاً، لتكشف عورات هذه الأنظمة، وتبين طبيعة الفكر الذي اشتغلت عليه عشرات السنين، وكان وراء ما سمي بالصحوة الإسلاميّة التي اخترق رجالاتها ومؤيدوها ثورات الربيع العربيّ.
هذا ونستطيع القول أيضاً إن الفكر العقلانيّ التنويريّ ودعوات العلمانيّة والديمقراطيّة والعقلانيّة النقديّة، لم تغب عن الساحة الثقافيّة والسياسيّة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ ومواقع النشر الالكترونيّ الكثيرة التي تعمل خارج سيطرة السلطات الحاكمة المستبدة عدوة العقل والعقلانيّة بكل أشكاله ومستوياته خلال قرن ونيف من الزمان.
*كاتب وباحث من سورية