بقلم محمد هاني شقير – خاص الحوار نيوز
لطالما صُنِّفَ العسكريون في لبنان من بين الفئات المغلوبة على أمرها، لعجزهم عن رفع الصوت والمطالبة بحقوقهم المشروعة، وهم الفئة الأكثر عملًا وجهدًا على رقعة هذا الوطن الصغير.
والأنكى من كلّ ذلك أنهم ممنوعون، بحكم القانون، من التعبير، ليس عن آرائهم فحسب، بل عن وجعهم أيضًا، وهذا تجريد لامنطقيّ مبطَّن، من حقوق وجب أن يتمتّعوا بها كأيّ مواطن؛ أفلا يُعدّ ذلك مصادرة لثقتهم قبل أيّ اعتبار؟
إنّ كلّ مهامّ القوى العسكرية هي من رتبة سيادية ووطنية بامتياز، إذ يقوم أبناء تلك القوى بتنفيذ أوامر السلطة السياسية بلا أيّ تردد. فهم الذين لملموا البلاد والعباد من السقوط المريع الذي سبّبته – وما زالت – المنظومة الحاكمة. وعليهم تقع مهمّة منع تدهور الوضع في البلاد، وذهابها الى ما لا يُحمَد عقباه، من تطورات دراماتيكية، أقلّ ما يقال فيها إنّها الفوضى العارمة “الفالتة” من عقالها.
مع كلّ ذلك، تتجرّأ المنظومة الحاكمة التي رفعت شعار “معًا للإنقاذ”، على نصب أفخاخ اجتماعية، تقصم ظهور الموظفين عمومًا والعسكريّين خصوصًا، سواء من هم في الخدمة الفعلية أم في وضعية التقاعد.
مبدئيًا، ليس من العدل منح الموظّفين ما يسمّونه “المساعدة الاجتماعية”، إنّما الحياء في لبنان له درجات ورُتَب، فهذه بدعة أبسط توصيف لها هو أنّها انتقاص من قيمة الموظّف وكرامته. فهذا العامل في الشأن العامّ، لم ينتسب إلى مؤسّسات الدولة لكي يستعطي، ولا لكي يتسوّل اللقمة مِمّن سوّلت لهم أنفسهم سرقتها، قبل سرقة الوطن برمّته، وقانون الموظّفين -وبإزائه المراسيم والتشريعات وما إليها- سُنَّ لكي لا يصل الموظّف إلى هذه الحافّة التي رُسمَت وفق تخطيط مسبق، لغاية في نفس يعقوب.
المطلوب يا سادة بسيط، هو تحقيق الوعود لا أكثر، يكفينا الحبر على الورق، ما زال خطاب فخامة رئيس الجمهورية عالقًا في أذهاننا، ووعده بأنّ الوضع سيعود أفضل ممّا كان عليه حين وصوله إلى سدّة الرئاسة. والحساب هنا بسيط جدًّا. فإذا كان سعر صرف الدولار الأميركي الواحد في حينها، في حدود 1500 ل.ل. مقابل حدّ أدنى للأجور 675 ألف ل.ل. فأبسط ما في الأمر، إمّا أن يعود سعر الصرف إلى 1500 ل.ل. وإمّا أن يتضاعف الحدّ الأدنى للأجور على قيمة سعر الصرف القديم! وتضيق مساحة هذه الورقة لاستعراض وعود الرئاسة الثانية والثالثة وأخواتها…
أمّا إذا كان ذلك من المُحال، فأيّ وعد سنهضمه من السلطة الحاكمة؟
لنعُدْ إلى الأرض، المطلوب تصحيح الأجور في القطاعين العامّ والخاصّ؛ لينال الموظّفون وسائر اللبنانيّين حقوقهم، بالمقدار الذي خسرته الليرة اللبنانية من قيمتها الفعلية، وهذا لن يكون عثرة أمام الاقتصاد الوطني، بقدر ما سيكون منعشًا له، شريطة استرداد الدولة وعيها، واستعادتها القبض على قرارها المقبوض عليه من عواصم عالمية متعددة لا همّ لها سوى مصالحها الخاصة، والسهر على استقامة مؤسّساتها ورعايتها وتطويرها، وممارسة الرقابة عليها، والتزام الجباية الكاملة والعادلة، واستثمار مواردها، واستيفاء حقّها ممّا لحظته التشريعات والقوانين التي وُضعَت أصلًا لضمان استمراريّتها وتطويرها.
فالموظّف لا يسعى لمراكمة الأموال وتكديسها، كما هو حاصل مع ساسة البلد وتجّاره، ومحتكري مقدّراته على اختلافها، إنّما هو سيقوم بصرفها على متطّلبات حياته اليومية، وستتحوّل من يده قبل أن تدخل جيبه، إلى الأسواق لشراء ضروريات العيش، وإلى البنوك لتسديد المستحقّات، بعد أن يمرّ المسكين على صاحب مولّد الاشتراك، وبعد أن يدفع لقاء خدمات هاتفه المحمول إن لم يكن “هواتف أفراد أسرته”، وملء خزّان سيّارته بالوقود، وكلّ هذا، قبل أن يفكّر بنقليّات أولاده المدرسيّة، وأقساطهم ومستلزماتهم، وقبل أن يُصاب هو نفسه، أو أحد أفراد أسرته، بمرض يجبره على عيادة الطبيب أو الصّيدلي في وضعية “قدم إلى الأمام واثنتَين إلى الخلف”.
هذا ولن يتمكن هذا الموظّف، في أيّ حال من الأحوال، من أن يشتري أيّ سلّة غذائية، تكفيه المدّة بين راتبَين؛ لأنّ المبلغ بمجمله، وببساطة ووضوح شديدين، لا يقرب أن يستوفي تسديد ضرائب الدولة، وما ينوب عنها في تقديم الخدمات، ليس أرحمه شركة الكهرباء، والقائمة تطول.
أمّا إذا استعرضنا لحال عناصر قوى الأمن الداخلي في الخدمة الفعلية أو المتقاعدين، فإنّنا سنكتشف أنّهم منهكون في كلّ ما له علاقة بحياتهم، وحياة عوائلهم! فإن ذهب أحدهم إلى صيدلية قوى الأمن؛ ليستلم دواء له أو لأحد أفراد أسرته أو عائلته، فسيعود بخفّي حنين؛ فكاتب هذه السطور، منذ أكثر من سنة ونيّف تقريبًا، لم يتمكّن من الحصول على 20% من وصفات الأطبّاء الدوائية، وهو أمر ينطبق على جميع العناصر من دون استثناء، والحال أنّنا نضطرّ إلى سوق الأدوية، وأين نحن من مطرقة سعر الصرف الذي انتشر وباؤه في قطاع الدواء، وسندان البديل المفقود أو غير المضمون؟ وربّما لجأنا إلى الأدوية المهرّبة؛ كالسوري والايراني والتي أيضًا أعجبتها “الموضة” فراحت تتكلّم لغة سعر الصرف!
وليس عجبًا أن يلجأ العناصر المتقاعدون إلى وسيلة أقلّ ما يمكن القول فيها، إنّها “تسوّلية” من خلال عرض ما لديهم من بقايا أدوية لم يستخدموها، على مجموعاتهم في تطبيقات التواصل الاجتماعي؛ بغية استفادة من يحتاج إليها منها، أو تبديلها.
طبعًا هذا المشهد الذي يعيشه العناصر كلّ يوم، مؤلم وصعب، ولا يُحسدون عليه. وزيادة على ذلك، هم معرّضون لحالات أصعب وأخطر، فإذا ما أصيبوا بمرض عارض يحاذرون من دخول المستشفى، ويسعون إلى تطبيب أنفسهم بأنفسهم في منازلهم، بما أمكن من علاجات متاحة، أو الطبّ البديل، أو تحمّل الأوجاع؛ هربًا من حجز سرير في “منتجع” المستشفى المكلف. كيف لا، وفيه سيواجهون ورطة تأمين كلفة الاستشفاء، ناهيك من كلفة العلاج، سواء أكان ذلك بسبب ما تجاوزته التعرفة المعتمدة، أم ما ينتج من فرق سعر صرف الدولار الواقع عليه بعد الاستشفاء. وهنا تكمن الطامة الكبرى، حين ليس هناك من مورد تستدين منه، وليس لديك ما تبيعه، فاخرَس أيّها العسكري و”الله الشافي”!
والغريب أنّ بعض الإعلام صوّب على مسألة عدّوها “فاضحة” فساقوا الأخبار حول معظم رجال الأجهزة الأمنية، وغيرهم من الموظّفين في الدولة الذين بدأوا – منذ انهيار العملة الوطنية- يعملون في عدّة قطاعات خدماتية وإنتاجية، لقاء مردودات زهيدة، جلّها لا يتعدّى قيمة المساعدة التي أنزّلتها مظلّة الحكومة مؤخرًا، ولمّا تصلْ بعد، والتي لا تتعدّى قيمتها كلفة تدفئة كوخ مدّة أسبوع في سحابة جنون كانون، وتلبيط شباط. والحقّ أنّه في عملهم هذا “اللامشروع ولكن المنطقيّ”، يبحثون عن فتات ليرة ضاعت قيمتها في زحمة تعميمات مصرف لبنان الذي هو الآخر، والمصارف المدللة لديه، لم يتوانوا عن سرقة تعويضات العسكريين وودائعهم، فلم يتردّد بعضهم في مسلك الانحراف، على قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة، في دولة “كلّ شي فيها شغّال”، حتّى أنّ بعضهم لا يتوانى عن القيام بذلك بالزيّ العسكريّ، وإسقاط كلّ اعتبار.
نعم هو العوز، الدافع الأوّل للانحراف، وارتكاب المخالفات والجرائم على أنواعها، وهذا أخطر ما يمكن أن تشهده المجتمعات والمؤسّسات وبخاصة الأمنية منها. ولا أدري إذا حقّ لنا أن نحزن – إلى جانب إدانتنا طبعًا- بإزاء من سقط في فخّ العمالة لصالح العدوّ بطريقة أو بأخرى! فإذا ما استثنينا المعادي وخسيس النفس الذي سلك بإرادته هذا المنحى لقناعة خبيثة تتملّكه، فإنّ بعضهم انساقوا وراء هذه الجريمة هربًا من الجرف الاقتصادي الذي لا يرحم، بحسب ما كشفته معطيات نُشرَت مؤخّرًا حول توقيف شبكات تجسّس تعمل لصالح العدوّ.
كل هذا يحدث يا جماعة، نعم، وغيره ممّا يُقال ولا يُقال، يعانيه اللبناني عمومًا والموظّف خصوصًا، هذا الأخير الذي لا يملك أن يُساوم على راتبه، بخلاف التاجر وصاحب المصلحة الحرّة على سبيل المثال، ومن ليس عنده مَن يوافيه بتحويلة “فريش دولار” من الخارج، وتكاد الدراسات تحصي من هؤلاء ثلث الشعب اللبناني -الموظّفون مع أسرهم- ودولتنا تبحث في مساعدة اجتماعية سنوية لهم، قد لا تساوي ثمن حبّة تليين حلق، بعد نوبة صراخ، سببها جوع أو مرض!
أليس الأجدى أن يستحي ساسة المنظومة أمام جريمة جماعية يقترفونها، بصمتهم عن الفساد والفاسدين تارة، وصوتهم في المناكفات والكيديّات تارة أُخرى، بسلاح الاتهامات والاتهامات المضادة وإخفاء الحقائق البائنة التي اصبحت بمتناول جميع اللبنانيين… جريمة لن يعفيهم التاريخ منها، ومن حفرِ أسمائهم في صكوك الإدانة؟
زر الذهاب إلى الأعلى