“الطابور الخامس” رجس شيطاني..فقاوموه !(محمد رقية)
د. محمد رقية* – الحوار نيوز
نسمع كثيرا عن الطابور الخامس فما معناه ؟ وكيف ومتى ظهر؟ وما هو الدور الذي يلعبه حاليا ؟ ولماذا يعتبر هذا المصطلح شتيمة في القاموس السياسي؟
وفقاً للموسوعة البريطانية فإن الطابور الخامس (fifth column )هو مجموعة سرية أو فصيل من العملاء التخريبيين الذين يحاولون تقويض تضامن الأمة بأي وسيلة يمتلكونها. ويعتمد الأسلوب الأساسي للطابور الخامس على تسلل المتعاطفين إلى نسيج الأمة بأكمله تحت الهجوم، وبخاصة في مواقف القرار السياسي والدفاع الوطني، من خلال استغلال مخاوف الناس ونشر الإشاعات والمعلومات المضللة، وكذلك من خلال استخدام تقنيات التجسس والتخريب الأكثر شيوعاً.
وبالتالي هم جماعة من العملاء الذين لا يدينون بولائهم لوطنهم وإنما يدينون بكل ولائهم لأعدائه، يبيعون وطنيتهم ويستبدلونها بالخيانة، يندسون وسط الناس على اعتبار أنهم وطنيون دون أن يعلنوا عن هويتهم الحقيقية فيساعدوا أعداء الوطن سراً بالتجسس لصالحهم، وينشروا الشائعات، ويبثوا الفوضى ويزعزعوا استقرار وأمن البلاد.
ويشمل الطابور الخامس مسؤولين وصحفيين وبعض من يزعمون أنهم مثقفون.
إن أنشطة الطابور الخامس قد تكون علنيةً أو سريةً. وفي بعض الأحيان تقوم هذه القوات السرية بمحاولة حشد الناس علنًا لمساعدة هجوم خارجي. ويمتد هذا المصطلح أيضًا إلى الأنشطة التي ينظمها الأفراد العسكريون. ويمكن لأنشطة الطابور الخامس السرية أن تنطوي على أعمال تخريب وتضليل وتجسس والتدمير الاقتصادي والدعاية وإثارة النعرات الطائفية أو العرقية ،وقد تصل إلى الاغتيال والإرهاب يُنفذها مؤيدو القوة الخارجية ضمن خطوط الدفاع بكل سرية. ويقوم هؤلاء العملاء بتمهيد الطريق للغزو العسكري أو السياسي؛ لذلك يتسللون للعمل في الجيش أو في الحزب السياسي أو في مجال الصناعة .
وترسخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحروب واتسع ليشمل مروجي الإشاعات ومنظمي الحروب النفسية التي انتشرت نتيجة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والغربي.
إن القلق من وجود طابور خامس يأتي من الشك في أن بعض المطلعين أو المتمكنين الذين يكون بوسعهم تقويض المصلحة الوطنية، تكون لديهم في الغالب أيديولوجيا أو هوية عرقية أو ثقافية أو دينية، مختلفة عن الوطنيين ، وبالتالي يصبح مشكوكاً في ولائهم للوطن.
أول ما ظهر هذا المصطلح في اسبانيا ، حيث كانت في اسبانيا بين العامين 1936 و1939 حرب اهلية بين طرفي نزاع:
الاول المعسكر الجمهوري بقيادة مانويل ازانا. وكان المعسكر الجمهوري على رأس السلطة في البلاد وانتماءاته يسارية تقوم على المساواة بين طبقات المجتمع والذي ايده معظم الناس.
والثاني معسكر القوميين بزعامة فرانكو وكانوا من ابناء ملاكي الاراضي والاثرياء ويميلون الى الفاشية اي التسلط على الشعب والحكم الدكتاتوري.
قرر القوميون الانقلاب على الجمهوريين وطردهم من السلطة فحشدوا لهم قوة عسكرية تحت قيادة امليو مولا لاقتحام العاصمة مدريد. وهي مركز الجمهوريين. وفي لقاء اذاعي اراد مولا ان يرعب من يسمعه من الجمهوريين داخل مدريد. ويشجع قوات جيشه المكون من اربعة طوابير. فقال انه سيحاصر مدريد بطوابير قادمة من اربع مدن. وطابور خامس مشكل من المتعاطفين معه ومع جيشه داخل العاصمة والذين كانوا يعملون في الخفاء لصالح الانقلاب. وبين ان هذا الطابور يختفي داخل ازقة وطرقات العاصمة وينتظر فقط وصول طلائع قواته اليها.
اثار قوله شكوكا واسعة في صفوف الجمهوريين. وفتح الابواب امام الاتهامات والتخوين. فكلمته جعلت الجمهوريين يشككون ببعضهم واهتزت صفوفهم ودخل مول العاصمة مع طوابيره منتصرا.
وبعدها انتشرت عبارة الطابور الخامس على نطاق واسع في كل العالم، واستخدمتها الصحافة الغربية مع فترة بداية الحرب العالمية الثانية.
فقد أسهم مناخ الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في ازدهار عبارة الطابور الخامس، حيث كانت كل من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية تسعيان بكل ما أوتيتا من قوة لتوظيف الجواسيس من نفس جنسية الدولة المراد التجسس عليها لاختراق الأعداء ، وسعت إلى التواصل مع نخب سياسية وإعلامية خاصة في فرنسا وبريطانيا لإضعاف موقف البلدين وإجبارهما على اتخاذ موقف محايد من الحملات التوسعية النازية والفاشية في أوروبا الشرقية والبلقان.
وترسخ أكثر هذا المصطلح مع استسلام فرنسا في صيف 1940، إذ كثر الحديث عن وجود طابور خامس سلَّم البلاد للنازية، واتهم المارشال بيتان (رئيس حكومة فيشي) بقيادة هذا الطابور الذي أدانه الجنرال ديغول بشدة في خطابه من لندن بتاريخ 18 يونيو/حزيران 1940، الذي دعا فيه إلى المقاومة ورفض الاستسلام. ثم اصبح المصطلح بعد ذلك يعني الجواسيس والخونة.
وبعد الحرب العالمية الثانية وانتشار الشيوعية حول العالم واشتداد المنافسة في الحرب الباردة، اتسعت المخاوف من الطابور الخامس على أساس أيديولوجي، إذ تفاقمت مخاوف ستالين من “تطويق الرأسماليين”، وحذر من أن خصومه الغربيين كانوا يتصرفون من خلال “جواسيس ومخربين وقتلة في الداخل”، في حين اتهم السياسيون اليمينيون في الولايات المتحدة، عديداً من موظفي الخارجية الأميركية والحكومة والمثقفين والفنانين في هوليوود بالتعاطف سراً مع الشيوعية والاتحاد السوفياتي في حملة الخطر الأحمر التي عرفت أيضاً باسم “الماكارثية”، نسبة إلى عضو مجلس الشيوخ جوزيف ماكارثي الذي قاد الحملة التي أدت إلى اعتقال ومحاكمة المئات، خشية أن يمثل هؤلاء “الطابور الخامس” المهدد للوحدة الوطنية.
ومع نهاية الحرب الباردة تضاءل التركيز على الأيديولوجيا كأساس لاتهامات الطابور الخامس وحل محلها القلق المتجدد في شأن الولاءات العرقية أوالدينية أو الحزبية أو النفعية .
ولاحقا انتشر المصطلح وأصبح كلمة رائجة في الصحف والخطب السياسية، ووسائل الاعلام المختلفة
وبعيدا عن السياسة، أصبح المصطلح ذا أهمية كبيرة في الحروب والنزاعات حيث تُسند للطابور الخامس مهام تساعد على حسم المعارك، كإثارة الرعب والفزع، وإشاعة الفوضى ونشر الشائعات مما يؤثر سلبًا على تماسك الجبهة الداخلية ويساهم في انهيار معنويات الخصوم.
فمثلا يعتبر بعض اليابانيين الكوريين الشماليين الذين يعيشون في اليابان، لا سيما أولئك التابعين لمنظمة كونجراين، طابورًا خامسًا، واستخدم هذا المصطلح كثيرًا في وسائل الإعلام الروسية خلال عام 2014 لوصف الأحداث الناتجة عن اضطرابات مؤيدي روسيا في أوكرانيا.
ويقترن ذكر تلك المجموعة، خاصة بفترات الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كدلالة على أن “ثلة من الناس استغلت تلك الأزمات، وانخرطت فيها، لضرب البلاد من الداخل”.
لكن لا أعتقد أنه وجد في تاريخ البشرية طابور خامس متفش وطاغ مثل الذي يعيش بيننا هذه الأيام ! ففي كل مكان حولنا: في منشورات الفيسبوك ووسائل التواصل والمواقع الالكترونية واعمدة الجرائد الرقمية والقنوات التلفزيونية و برامج الاعلام و حتى جلسات المقاهي… اينما ذهبت ستجد نشاطا من نشاطات الطابور الخامس ! من تحقير للأمة ورموزها ومساس بمقدساتها و تأليه لأعدائها و تسفيه لأحلامها ! بل ويجود الكثيرون للأسف من المتطوعين بغباء و جهل بديع للانتماء لهذا الطابور الخامس فقط لهدف السخرية و المزاح الثقيل .
إن أخلاقيات الكثير من الإعلاميين والفنانين لا تمت للوطن، بصلة، ولكن تحركهم أهواء المكاسب المادية التي يجنونها من الداخل، والخارج جراء الفتن التي يثيرونها في حوارتهم، والتي قد تحقق لهم مشاهدات، وشهرة عالية، حتى ولو كان هذا على حساب زعزعة أمن الوطن، وهدم رموزه.البعض من هؤلاء أيضا في بعض الأحيان يجعل المواطن ساخط على حياته من خلال ما يروجوه من محتوى مستفز ومقرف.
الآن للأسف أصبح العديد من الإعلاميين يعملون لصالح رجال أعمال ، ومنظمات أمنية ودينية، وأجهزة تجسس معادية.وبما أن الذي يحكم هؤلاء الإعلاميين هو كسب المادة، وتحقيق ملذات الهوى، فلا مانع من أن يفعلوا أي شيء ضد المبادئ، والأخلاق، والأعراف، بل من الممكن أن يصبحوا ديوثين على عرض الوطن وعرض أبنائه الذين هم أحد أفراده.وهذا ما نشاهده يوميا على شاشات العديد من الفضائيات العربية التي تعمل لصالح أجندات أجنبية مختلفة لضرب النسيج الوطني لشعوبنا .
فمثلا نجد إعلاميا يستضيف مجموعة من المتحدثين لمناقشة إحدى القضايا التي تخص الوطن، أو المواطن، أو القوانين المنظمة لحياته، آو يقوم بمناقشة الأمر حول رمز من رموز الأمة، وفجأة يقوم باستضافة شخصية غير معروفة، وغير موثوق بها ثم يصدرها للمواطن على أنه باحث ومفكر، وعظيم من عظماء الأمة، وتقوم هذه الشخصية بالطعن في رموز الأمة وهدم مؤسساتها ، ويمتدح أعداءها حتى ينجرف خلف هذه الشخصية سيل من ضعاف النفوس والعقيدة المعرفية أصحاب الميل للهوى!
هذا عدا عن امتلاء الشاشات ببرامج ولقاءات موجهة ضد المقاومين والمناضلين والوطنيين ، ومؤخراً كان الطعن مباشراً، فبدأ يشكك الرجال في أمهاتهم وجداتهم، ليقول لهم بأنهن كن عرايا، وكن جاريات عند الأجنبي. إنها المسخرة والمهزلة الإعلامية ..
إنه الطابور الخامس الذي يطبخ لنا السم في العسل.. يقنع الناس بالوطنية ثم ينشر الأفكار الهدامة والمشككة لهم في كل شيء.
لقد لاحظنا خلال أعوام “الخريف العبري” ماذا جلب عناصر الطابور الخامس بدسائسهم وكذبهم وأضاليلهم ودعمهم للإرهاب والعدوان الخارجي على البلاد، سواء في داخل البلاد وخارجها من ويلات ومصائب على شعوبنا.
وحتى بعد زلزال ٦ شباط الماضي في تركيا رأينا كيف لعب عناصر هذا الطابور في عقول الناس من تخويف وترهيب وتضليل وأكاذيب ، ووصل الأمر بهم حتى نشر الشائعات المغرضة والأكاذيب المضللة عن المساعدت التي قدمت للمتضررين من الزلزال وكيفية توزيعها بأحاديث وفيديوهات مفبركة ما أنزل الله بها من سلطان .
في عالم اليوم وفي عصر السوشال ميديا التي اكتسحت كل شيء ، تنتشر سياسة الطابور الخامس في كل مكان. فهو العدو الحقيقي، وهو الخطر القادم علينا جميعا ، الذي بدأ يستفحل أمره ونرى فظاعة أثره من دون أن يُرى. إنه دسيس الداخل مجهول الهوية، يتظاهر بحبه للوطن وهو من أشد الكارهين له، يسعى سعياً دؤوبا للنيل من استقرار وأمن أوطاننا. إنه يعيش بيننا بوجهين كطيف نرى أثر ألاعيبه البهلوانية دون أن نرى كينونته..
قاوموا الطابور الخامس، فهو اخطر من كل الأعداء.. إنه الوباء الحقيقي .
*كاتب وباحث سوري