الرئيس حسين الحسيني كما عرفته: رجل دولة..ودولة في رجل (واصف عواضة)
كتب واصف عواضة – خاص الحوار نيوز
غيّب الموت قامة وطنية كبيرة حاولت جاهدة صناعة استقرار لبنان في زمن الشدة.هو دولة رئيس مجلس النواب السابق الرئيس حسين الحسيني الذي كان رجل دولة، ودولة في رجل.لكن هذا الاستقرار لم يكتمل ،بل أنه لم يُستكمل كما أراده الرجل، على طريق بناء الدولة العادلة ،دولة المواطنة التي رسمتها اتفاقية الطائف، وقد كان عرّابها من دون منازع.
عرفت الرئيس حسين الحسيني في بدايات عملي الصحفي قبل خمسة وأربعين عاما ،عندما توليت تغطية نشاطات المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وحركة “أمل” بقيادة الإمام السيد موسى الصدر ،وكان الحسيني أمينا عاما للحركة ،وهو أحد مؤسسيها إلى جانب الإمام المغيب ونفر من نخبة الشخصيات اللبنانية .
كان ذلك في العام 1977 ،وكانت مدينة الزهراء في خلدة (مقر الجامعة الإسلامية اليوم) موئلا للإمام وقيادتي المجلس الشيعي وحركة “أمل”،وعلى مرمى حجر منها يقوم المنزل الريفي للنائب الحسيني في منطقة عرمون (قبل أن يتولى رئاسة مجلس النواب)،وكنت أتردد بصورة دائمة إلى هذا المنزل ،وكان الفقيد الكبير يحتضنني وعقيلته المرحومة حياة الحسيني كواحد من أهل بيته،حيث انتسجت بيننا علاقة حميمة إمتدت طوال هذه العقود وحتى الرمق الأخير من حياته.
في هذا المنزل المطل على أوتستراد خلدة تعرض الرئيس الحسيني لمحاولة إغتيال ذات ليلة من العام 1980 ،ونجا منها بأعجوبة بالغة،لكن هذه المحاولة كانت لها ظروفها وخلفياتها وتبعاتها السياسية التي دفعته إلى الاستقالة من قيادة حركة “أمل” ،لأنه آثر ألا يتحمل مسؤولية أي نقطة دم من جراء هذه المحاولة كما قال لي يومها بالفم الملآن.
وقد رويت في كتابي الصادر عام 2015 بعنوان “ليس كمثله يوم”، فصلا كاملا عن تلك المرحلة ومحاولة الإغتيال وظروفها وذيولها.
فقد خلف غياب الإمام الصدر في العام 1978، فراغا كبيرا كان يفترض تعبئته على صعيدي المجلس الشيعي وحركة “أمل” والطائفة الشيعية ولبنان بشكل عام.وعندما طال الأمر أمسك الشيخ محمد مهدي شمس الدين ،بصفته نائبا لرئيس المجلس الشيعي، بمهام الإمام وبناصية المجلس والحركة، وتولى النائب السيد حسين الحسيني الأمانة العامة لحركة “أمل”، وما لبثت أن اختلفت وجهات النظر بين الرجلين ،وجرت مساع حثيثة لاصلاح ذات البين من دون جدوى.وكنت على مقربة منهما ،وعلى اطلاع على بعض بواطن الامور،خصوصا الحسيني الذي كان منزله في عرمون مقر قيادته ومقصدا للزوار .
توترت الأجواء بين حركة “فتح” وحركة “أمل” بسبب محاولات ياسرعرفات الهيمنة على الحركة ،ورفض الحسيني الإنصياع لهذا الأمر ،وحصلت توترات محدودة بين الطرفين في أكثر من منطقة،وانعكست بصورة مباشرة على العلاقات بين الشيعة والفلسطينيين.
فجر أحد الايام عام 1980 أُطلقت قذيفتان صاروخيتان على منزل الحسيني في عرمون ،لكنه لم يصب وعائلته بأي أذى ،وتوجهت أصابع الإتهام الى حركة “فتح” بزعامة عرفات.
طلع الصباح وانتشر الخبر وغص منزل الحسيني بالزوار لتهنئته بالسلامة .كانت المفاجأة في إعلان الحسيني استقالته كأمين عام لحركة “أمل”.وكنت أول الواصلين الى المنزل.أمسك الحسيني بيدي وقادني الى غرفته الخاصة المواجهة لطريق عام خلدة التي لا تبعد عن المنزل أكثر من مئتي متر.والغرفة عبارة عن مكتبة وصالون صغير وسرير غالبا ما يستريح عليه الحسيني عندما يطالع (وهو بالمناسبة قارىء نهم)،وفي معظم الأحيان يغلبه النعاس فينام على السرير حتى الصباح . لقد اصابت إحدى القذيفتين الصاروخيتين السرير مباشرة ودمرت جزءا من الغرفة ، ونجا الحسيني من انفجارها حيث انقذته الصدفة.
روت لي عقيلة الحسيني المرحومة السيدة حياة (ام علي) تفاصيل الحادث كما يلي:”كنت في المطبخ قبيل منتصف الليل احضّر فنجان قهوة ،وكان السيد حسين (أبو علي) في الصالون المجاور عندما رن جرس الهاتف ،فتوليت الرد من المطبخ ،وكان على الخط السيد وليد جنبلاط الذي طلب التحدث الى السيد.ناديته للرد على المكالمة، فقال لي إنه سيتلقى المكالمة من جهاز الهاتف الموجود في غرفته الخاصة ، ولكن حشريتي ورغبتي في الاستماع الى المكالمة دفعتني كي ألحّ عليه ليتناول سماعة الهاتف التي أمسك بها في المطبخ كي لا نؤخر الرجل على الخط. لم يكد السيد يبدأ حديثه مع جنبلاط حتى انطلقت القذيفة الصاروخية الأولى ثم الثانية فأصابت السرير مباشرة في الغرفة ونجونا بأعجوبة”.
قلت للحسيني ونحن نراقب ما فعلته القذيفة الصاروخية:الحمد لله على سلامتك سيد..ولكن لماذا الاستقالة؟ ألا تخشى ان يُحسب هذا الامر عليك خوفا وهروبا من المسؤولية؟
قال الرجل بلغة الواثق:لست خائفا على نفسي.سأقول لك أمرا في غاية الأهمية.هذه القذيفة لا تستهدفني شخصيا فقط.هذه القذيفة ستجر بحرا من الدماء بين الشيعة والفلسطينيين،وأنا يا عزيزي لا أريد ان أحمل في رقبتي نقطة دم واحدة.
وصحّت توقعات الحسيني ،وسال بحر من الدماء على مدى عقد من الزمن بين الشيعة والفلسطينيين ،كانت حركة “امل” في جانب والفصائل الفلسطينية بزعامة “فتح” في جانب آخر ،وكان أعنفها حرب المخيمات التي امتدت طويلا وصرفت المئات من القتلى والجرحى بين الطرفين ،ولم يلتئم جرحها الا بانتهاء الحرب اللبنانية وانهماك الشيعة بتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي ،وظهور “حزب الله” كمقاومة أخذت على نفسها عدم الصدام مع الفلسطينيين تحت أي ظرف من الظروف.
تقاطر الزوار الى منزل الحسيني في عرمون،وراح الشيخ عبد الامير قبلان يحاول إقناع الرجل بالعودة عن الاستقالة.استفاض الحسيني في الحديث مبررا إقدامه على الاستقالة . قال إنه لا يستطيع ان يرى “بوادر الخلاف والتفرقة في صفوف الطائفة ويقف مكتوف الأيدي.إن ما يحصل ليس مقبولا ولا استطيع ان اتحمل عواقبه”.
تحدث الحسيني مطولا وكنت استمع الى ما يقوله :”يا سماحة الشيخ قبلان ويا اخواني ،لست بحاجة لمن يقنعني بالعودة عن الاستقالة.حركة “أمل” جزء مني ،وانا جزء منها.هي بنتي ولست انا ابنها فقط.ومن حرصي عليها اقدم استقالتي اليوم، علّ هذه الاستقالة تحدث صدمة ايجابية تعيد الجميع الى وعيهم.
انتهى اللقاء عند هذا الحد . عدت الى الوكالة ،وكتبت ما تحدث به الحسيني على ثلاث صفحات “فولسكاب” وبأمانة مطلقة من دون تسجيل او تدوين او حتى ملاحظات على الورق ،(وهو ما كان يدفع الرئيس الحسيني لاحقا الى القول “ان رأسك مثل الكومبيوتر”).
نشرت الصحف في اليوم التالي حديث الحسيني كاملا نقلا عن “وكالة اخبار لبنان” ،وضجت به البلد ،ولم يخطر في بالي من قريب أو بعيد ان هذا الحديث سوف يستخدم ورقة ضد الحسيني في المؤتمر العام لحركة “أمل” والذي كان على الأبواب ،وتم خلاله انتخاب المحامي نبيه بري أمينا عاما للحركة والسيد حسين الموسوي (ابو هشام) ناطقا باسمها خلفا لبري ،فيما اطلق على الإمام شمس الدين اسم “المرشد الاعلى” لها تيمنا بزعيم الثورة الاسلامية في ايران الإمام الخميني. وكان الشيخ شمس الدين قد اتصل بي قبل المؤتمر بأيام لتأمين نسخ من حديث الحسيني .
بعد أيام من المؤتمر كنت في مدينة الزهراء عندما فاجأني السيد حسين الموسوي”ابو هشام” (النائب في البرلمان لاحقا) بالقول:”سامحك الله ،لقد اسهمت من دون ان تدري ربما في توجيه طعنة للسيد حسين الحسيني”.
قلت :وما ذلك يا سيد؟
قال:لقد استخدم الحديث الذي نشرته له في الوكالة ضده في المؤتمر،وشُنت عليه حملة عنيفة ،خصوصا كلامه بأن حركة “أمل” ابنته وهوليس ابنها،ما عُدّ تعاليا على الحركة من جانبه.حتى ان البعض اتهمه بانه يضع نفسه فوق المؤسس الإمام الصدر.
صدمني كلام “ابو هشام”،وأحسست بانني خنت الأمانة التي وضعها الحسيني بي .كانت هذه اول تجربة بريئة لي في عالم الصحافة ،دفعتني فيما بعد الى الحذر الشديد ،والتنبه الى ان المجالس الخاصة لها حرمتها ،وانه يمكن الالتفاف على المعلومات والتصريحات الصحافية من دون أذية الاصدقاء الذين يضعون ثقتهم بك.
وبكثير من البراءة انقطعت عدة اسابيع عن زيارة الحسيني ،اذ لم يكن لي الجرأة على مواجهته ،الى ان التقاني صديق مشترك بعد فترة مستغربا انقطاعي عن منزل الحسيني ،مؤكدا ان الرجل سأل عني أكثر من مرة.ولكم فاجأني الحسيني عندما زرته، وبدماثته المعهودة قال لي :انا اشكرك على الحديث الذي نقلته عني ،لانه سهّل الطريق امامي في الخروج من موقعي في الحركة والذي كنت لا أحسد نفسي عليه.أنا عندما استقلت لم أكن أناور في ذلك.
وهكذا عادت الحياة الى مجاريها وتعززت العلاقة اكثر بعد انتخابه رئيسا لمجلس النواب، حيث رافقته في معظم رحلاته الرسمية الى الخارج وبقيت الى جانبه ،وكان يشركني في غالبية اللقاءات كواحد من الوفد الرسمي.وكان الرئيس الراحل يحظى باحترام منقطع النظير لدى المسؤولين العرب والأجانب.
دروس السياسة
خلال هذه الرحلة الطويلة على أكثر من أربعة عقود ،تعلمت من الرئيس الحسيني درسا بليغا مؤداه:”إياك ثم إياك ان تراهن على أوضاع غير طبيعية على انها دائمة.فما هو غير طبيعي يؤول دائما الى الزوال”.
لكن الظروف غير الطبيعية طالت كثيرا .وربما لهذه الأسباب استقال الرئيس الحسيني من العمل النيابي في 12 آب عام 2008 بعدما فقد الأمل في بناء دولة ،وآثر الإنطواء بعيدا عن الحياة السياسية التي يأس كما يبدو من إمكان تطويرها وتحديثها في ظل النظام السياسي القائم.كان حلمه أن يستكمل تنفيذ اتفاق الطائف الذي ولد على يديه ،خاصة تطبيق المادة 95 التي باتت جزءا من الدستور.لكنه لمس أن هذا الحلم يبدو ضربا من المستحيل في ظل الظروف السياسية الحاكمة ،وشهد في آخر سنواته البلد ينهار على رؤوس أهله ،فزاده اليأس يأسا ،لكنه رحل مرتاح الضمير إلى أنه سعى وجاهد في سبيل ذلك بكل ما يستطيع.
رحم الله الرئيس الحسيني ،وخالص العزاء للعائلة الكريمة ،ولنجليه العزيزين علي وحسن والأصدقاء والمحبين.