الدين “حصان طروادة”.. إذا استُغل (عدنان عويّد)
د. عدنان عويّد – الحوارنيوز خاص
رداً على سؤال لأحد الأصدقاء، تساءل فيه إذا كانت الثقافة العالمة، وهي الثقافة بشقيها الشعبي والنخبوي كما تقول، هي ثقافة دينيّة مشبعة بالخرافة والأسطورة والقصص والحكاية والكرامات، وغالباً اجتزاء النص المقدس من سياقه العام عند الاجتهاد به لتأكيد ما يراد إقناع المتلقي أو المتحاور معه، كذلك تتضمن هذه الثقافة تقديس (الفقيه أو صاحب الطريقة) وأقوالهم واعتبارها حقائق مطلقة لا يأتيها الباطل من تحتها أو بين يديها، فالسؤال هو هل كل ما نمارسه من فساد يتحمله الدين في جوهره، أم يتحمله الحامل الاجتماعي لهذا الدين؟
أقول: إن الدين يا صديقي بمفهومه (التقليدي) هو مجموعة الرؤى والأفكار والمعتقدات التي يعتنقها الفرد أو الجماعة، ويمارسونها فكراً وممارسة في حياتهم لإيمانهم بأنها مقدسة ومتعالية على واقعهم، وهي من سيحقق لهم سر وجودهم ووجود هذا الكون بكل مكوناته ودلالاته. والدين من ناحية سياق إنتاجه الزمني، هو نتاج مراحل تاريخيّة سابقه لعصرنا بآلاف السنين، أي هو في جذوره الأولى يعود إلى العصور البدائيّة لحياة الإنسان الذي كان يعبد فيها قوى الطبيعة وما عليها من نبات وحيوان، (الديانة التوتميّة)، وآخر دين هو الدين الإسلامي الذي تجرد فيه الإله (الله) عن كل ماله علاقة بالوجود المادي المحيط بهذه الطبيعة (ليس كمثله شيء)، ونحن نبتعد عن فترة ظهوره اليوم /1400/ عاماً ونيف.
إن كل الديانات التي أوجدها الإنسان، ومنها ما عرف بالديانات السماويّة، وهي (اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة)، هي ديانات مترابطة ومتداخلة مع بعضها، ولكن وفقاً لقانون (التطور الحلزوني). أي أن كل دين منها يظل يحمل من الدين الذي سبقه الكثير من قيمه ومفاهيمه التي لم يزل عصره يستوعبها، أو يجد مبرراً لوجودها فيه، وإلا ماذا يعني أن يظل (الحجر الأسود) يمتلك تلك المكانة المقدسة في الدين الإسلامي؟. أو بقاء تلك المفاهيم والقيم المشتركة ما بين الديانات السماوية الثلاثة، حيث نجد حتى هذا التاريخ في عالمنا الإسلامي تلك النظرة الدونية للمرأة وفقاً لرؤية التوراة لها، و كذلك تاريخ الأنبياء وقصص حياتهم، التي نتداولها، وهي القصص التي قصتها التوراة أيضاً، كسفينة نوح، وناقة صالح، وحوت يونس، وقوم لوط، وغير ذلك من الرؤى الإنسانيّة أيضاً التي جاءت في الأناجيل، نجد مثيلها في القرآن.
إن مشكلتنا مع الدين تكمن في عقليّة من يقول: إن الدين كما أقره وفهمه السلف الصالح في القرون الثلاثة الأولى، فقهاً وعلم كلام وتصوفاً وفرقاً وطوائف، صالح لكل زمان ومكان، وبالتالي فكل شيء جديد يفرضه تطور الحياة ولا ينسجم مع ما أقره هؤلاء يعتبر بدعة وضلالة وكفر، متناسين مسألة أساسيّة في حياة الدين، وخاصة الإسلامي بشكل خاص ،وهو موضوع التساؤل، بأن الدين جاء للواقع، والواقع بطبيعته يتغير ويتبدل في معطيات إنتاجه وتفكير حوامله الاجتماعيّة ومصالحهم وأحوال معيشتهم.
إن الله عز وجل علمنا منذ البداية بأن الزمن في حالات تطور وتبدل أحداثه هو أقوى من النص الديني ذاته، لذلك كثيراً ما أوقف العمل بآيات، أو فسرت آيات وأولت بما يوافق تطور الزمن. وكذلك فعل الرسول الكريم في هذه المسألة بالنسبة لما عرف من آيات (الناسخ والمنسوخ)، وكان فيما بعد موقف الخليفة عمر بن الخطاب الأكثر جرأة عندما تجاوز العمل بآية السرقة أيام المجاعة، أو آية توزيع الخراج، أو المؤلفة قلوبهم.
مشكلتنا إذاً ليست مع الدين في جوهره ومقاصده وما يمارس باسمه من قضايا لا يرضاها العقل والمنطق، بل هي مع هؤلاء المتخلفين من رجال الدين الذين أوقفوا الاجتهاد أو الأخذ بالرأي، حيث اقتصر فهمهم للدين على فهم أئمة القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام، وهؤلاء وقعوا في مزالق كثيرة أهمها:
أولاً: تقديسهم لكل ما جاء عند أهل السنة والجماعة أو آل البيت عند الشيعة، واعتباره صحيحاً لا يأتيه الباطل أبداً. وهذا ينافي موقف الناسخ والمنسوخ منهجياً ومعرفياً، وينافي مقاصد الدين ومصالح الناس المرسلة.
ثانياً: التمسك بروايات السير والمغازي، واعتبارها قيم ثابته وبخاصة من الناحية الأخلاقّية، علماً أن من كتب هذه السير والمغازي ليس من عاش عاصرها، حيث يقول ابن حنبل: (إن من كتب السير والمغازي وعرف أسباب نزول الآيات القرآنية قد مات). وهذا يدفعنا للوقوف كثيراً أمام مسألة مضامين هذه السير والمغازي التي كتبت بعد /130/ هـ، وبمواقف غالباً ما يطغى عليها البعد السياسي كما طغى على كتابة ووضع الأحاديث عن الرسول تماماً.
ثالثاً: مسألة إشكالية تفسير النص القرآني (الآيات) وفقاً لأسباب نزولها، أي السياق التاريخي الذي جاءت فيه من جهة، ثم للموقف التفسيري من الآيات المتشابهات بشكل خاص من جهة ثانية، حيث اختلطت الأوراق هنا، وراح الكثير من الأئمة منذ القرن الثالث للهجرة حتى هذا التاريخ، يفسرون هذه الآيات ويقدمون لها أدلة قدمها بعض الصحابة أو التابعين وتابعي التابعين، كانت قد وجدت هوى لدي بعضهم آنذاك، خدمة لمواقف لا ترضي الله ولا الرسول، ولا تتفق أصلاً مع بنية الدين الذي لم يأت لخدمة فئة معينة أو عائلة معينة. وهذا ما سيّس الدين في الحقيقة. فكثيراً ما سجن هذا الفقيه أو ذاك وعذب من قبل هذا الخليفة أو ذاك لتفسيره حديثاً أو آية لا تتفق ومصالح السلطة الحاكمة، أو لرفض تلبية رأي الحاكم في شرعنة مسألة تكمن فيها مصالح الحاكم، ثم كان وراء هذا الموقف الديني ذاته حدوث تلك الصراعات التي راحت تتبلور فيما بعد وتتحول إلى صراعات مذهبية مورس فيها التكفير والزندقة للآخر، بل استخدام السجن والقتل للمخالف في الرأي .
رابعاً: إن كثرة التعامل مع الآيات المتشابهات، وتدخل السياسة في الدين، وتعدد المدارس الفقهيّة، وانتشار علم الكلام، ودخول عناصر وقوى اجتماعيّة كان لها دياناتها وفلسفاتها من الحياة إلى الدين الإسلامي، وتأثير هذه الديانات ورؤاها الفلسفيّة في تفسير أو تأويل النص الديني، إما بشكل مقصود تطلبته طبيعة الصراع بين الشعوب التي دخلت الإسلام والعرب، وهذا ما سمي بالحركات الشعوبيّة، أو كان التأثير بشكل عفوي فرضته طبيعة التأثير والتأثر بين الشعوب وحضاراتها. كما كان لانتشار الفقر والجهل والتخلف، وغياب الرؤى الفكريّة الوضعيّة التي تفسر أسباب نشاط الإنسان، واقتصار ذلك على الرؤية الدينيّة فقط، كل ذلك أدى إلى ظهور تيارات ومدارس فكرية دينيّة ساهمت كثيراً في إغراق الدين الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق، في قضايا فلسفيّة أيضاً إلى جانب السياسية، تتعلق بأسماء الله وتجسيده، أو نفي التجسيد عنه، ثم إدخاله في قضايا ذات بعد صوفي لا يمت إلى دور الدين بصلة، الأمر الذي جعل الدين يتدخل بكل شيء في حياة الإنسان، وبالتالي استغلال هذه المسألة من السلطات الحاكمة وحتى المستعمرة الأجنبيّة فيما بعد، لتوجه هذه الشعوب الإسلاميّة وفقاً لمصالحهم على حساب جهلها وتجهيلها معاً، عبر تغذية نزعات التمسك بالمذهب أو الطائفة وإغلاق الذات على الآخر وتكفيره أو الحط من قيمته ومكانته الاجتماعيّة والإنسانيّة والدينيّة، وصولاً إلى استباحة دمه، كما يجري اليوم مع من يدعي بأنه هو الفرقة الناجية، كالدواعش أنموذجاً.
وختاماً أحب هنا أن أقدم رأياً لأحد قناصل فرنسا في سورية ، يشير فيه إلى أهمية الدين ومكانته في حياة شعوب الشرق عموماً وإمكانيّة استغلاله وتحويله إلى حصان طروادة للسيطرة على حياة هذه الشعوب الإسلاميّة باسمه، وهو السيد “دي ليسبس” قنصل فرنسا العام في سورية في /19/آب/1856/، الذي أرسل تقريراً إلى حكومته ضمنه مقتطفات من رسالة أشار له فيها القنصل العام في طرابلس، السيد” بلانش”، يقول فيها: (إن من أبرز الحقائق التي يلحظها من يريد دراسة الشرق، هي تلك المكانة التي يحتلها الدين في نفوس الناس والسلطة التي له على حياة الناس. فالدين يظهر في كل أمر، وفي كل مكان في المجتمع الشرقي، حيث يظهر أثره في الأخلاق العامة، وفي اللغة، وفي الأدب، وفي جميع المؤسسات الاجتماعيّة، والرجل الشرقي لا ينتمي إلى الوطن، فالشرقي ليس له وطن، بل إلى الدين ذاته الذي يعتنقه هو. وكل فرد خارج عن حظيرة الدين، هو بالنسبة إليه رجل أجنبي.). (1).
إن هذه الرؤية تجاه الدين ومعرفة دوره في حياة الإنسان الشرقي بشكل عام، والعربي بشكل خاص، أستغلتها أبشع استغلال (الحكومات العربيّة) في تبنيها للفكر الصوفي أو الوهابي أو الأشعري، وكذلك المستعمر أثناء احتلاله لبلادنا، والكل لم يزل يستغل الدين حتى الآن ويحوله إلى “حصان طروادة” بالشكل الذي يريده خدمة لمصالحه، وتقديم الدعم من قبل أمريكا للقاعدة وداعش والفكر الوهابي أنموذجاً لذلك.
*كاتب وباحث من سورية
1- راجع كتابنا التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب – إصدار داري المدى والتكوين – دمشق . هناك الكثير من المواقف العمليّة والفكريّة التي استغل فيها المستعمر الدين للسيطرة على شعوب المنطقة العربيّة.