الحرب والسلم لتولستوي: التأريخ لمستقبل لم يأت بعد
رولا فارس ضيا-الحوارنيوز خاص
مجموعة من المدارس الأدبية تصيغ النتاج الأدبي بسماتٍ مميزة من المبادئ الفكرية والفنية.
من عصر النهضة و المدرسة الكلاسيكية إلى مدرسة التجديد و أدباء المهجر، إلى الكتابة الحرة و غيرها…. كلها مدارس و مبادئ متحركة غير جامدة.
لها أفق ممتد في الزمن، يملك خصوصية فنية و فكرية وثقافية معينة، كما يملك تقنيات سردية تحكم القبض على مفاصل الأدب كلٌ بحسب بيئته و زمنه وواقعه. المهم ان تُظهر للقارئ صيغ شكلية و جمالية مفهومة عن واقع معين بزمن محدد. وهنا تدخل قوة المخيلة في صناعة هذا الواقع و وعوالمه السردية.
هذا بالتحديد ما حصل في رواية "الحرب و السلم" للأديب العالمي الكونت ليف نيكولا يافيتش تولستوي.
انا شخصياً كقارئة يزعجني السياق اللغوي الذي لا يشق ثوب الدهشة، و لا يشكل دائرة مغلقة حولي.
"الحرب و السلم" من الروايات التي دفعتني إلى إعادة التفكير في التاريخ و طبيعة الإنسان في مختلف المجتمعات بما تحمل من آلام و آمال و خوف و شر و خير، و رغم حجم الشخصيات الكبير جدا و حجم الملحمة وتعقيد أحداثها احيانا، الا انها شكلت تلك الدائرة المغلقة لمدة شهر و لا شك أن تواطئ كورونا والحجر ساعدها في ذلك كثيرا.
لتولستوي اتجاهاً خاصاً فريداً في قدرة السرد و الأسلوب. قدرة تخاتل الكتابة بأنبعاثات خيالية تسلط الضوء على حقبة إجتياح نابليون لبلاده و دخوله موسكو، ثم انسحابه وما خلفته الحرب من دمار و خراب و خيبات. مشاهد طويلة جدا عن الدمار والمجازر حكت بأظافرها الطويلة ذاكرتي و طفولتي خلال الحرب الأهلية اللبنانية و خلال حروبنا مع العدو الصهيوني و خصوصاً اننا نشهد على حروب أخرى بوسائل أخرى تقبض على أرواحنا بأصابع الدولار. دعنا من السياسة و من بلادنا و لنعود إلى بلاط القياصرة. وصف تولستوي غطرسة نابليون و طموحه، وكيف هزم نفسه بنفسه لأعتقاده بأنه يتحكم في مصير أوروبا كلها، فكان جزاء هذا الرجل القصير صغير البنية الهزيمة في روسيا. يحضر واقعنا العالمي في ذهني الآن هل سنشهد على هزيمة من يتحكم بمصير العالم ام ان الغيوم أكوام شؤم لا يتساقط منها الا المصالح والحقد و الحروب. مرة اخرى دعنا من عالمنا و من هزائمنا ولنأخذ العبرة من ملحمة الحرب و السلم بما طرحته من أفكار علها تعمق وعينا حول كل ما يحيط بنا.
عمد تولستوي في عمله الإبداعي هذا إلى تعميق ضراوة و شراسة الحرب في نفوس الشخصيات ليستنطق مشاعرها ويفرغ كل مكنوناته و فلسفته عن الحياة و الحرية و الإرادة.
جزء كبير يعمد فيه الكاتب إلى إيصال وجهة نظره عن عبثية الحروب و بواعثها الاجتماعية.
فقد تناول ويلات الحرب والدمار بإنغماس كليّ وبلور المعاناة في أسئلة شائكة و كبيرة قدمها ضمن الحوار بين شخصياته.
نص تأسيسي بنى عليه المجتمع الروسي… وما زال.
فقد تناول ويلات الحرب و الدمار بانغماس كليّ و بلور المعاناة في أسئلة شائكة و كبيرة قدمها ضمن الحوار بين شخصياته.
ينسحب بنا إلى بلاط القياصرة و النفوذ و الترف التي كانت تعيشها طبقة النبلاء في تلك الحقبة. هواجسهم و مشاعرهم التي كان يختصرها في الكثير من الأوقات بالإيماءات لعجز الكلمات احياناً عن التعبير فيلجأ إلى لغة الجسد و الاحاسيس المخفية. يغوص في قضايا النفس البشرية ليسأل لماذا نعيش؟ ماهو الصح و ما هو الخطأ او ربما من يحدد هذا….
انها قضايا فلسفية شائكة.
الحرب و السلم رواية امتدت على مساحة ٧ سنوات استطاع تولستوي تحويل أحداث التاريخ إلى عمل أدبي مبدع، و هذه قدرة هائلة لا أعرف أن كان أحد من ادباء الجيل الحاضر يملكها.
يشكل التاريخ مادة خصبة للبحث و ربما هو مدخل جذاب لكتابة الرواية و سرد واقع ممزوج بالخيال.
و لكن الابداع حالة تأمل عميقة، و الرواية تكتب واقعاً و تعبر عن قضايا وجودية بحس يتسلل كالمياه .و هنا تكمن قدرة الكاتب على استحضار الكلمات و تطويع الأفكار و الخيال و السرد ليجعل من نصه أو روايته لغة عالمية تطرق مناطق حساسة عند القارئ في وعيه و احساسه.