دولياتسياسة

الحراك الصيني الأخير: فرصة متجددة للعرب ومصدر قلق للغرب!(قاسم طفيلي)

بقلم قاسم طفيلي*

لا شك ان الجولة الأخيرة “الناجحة والمثمرة” لوزير الخارجية الصيني يانغ يي والتي شملت السعودية، إيران، تركيا، الامارات العربية المتحدة، سلطنة عمان والبحرين على مدى أسبوع كامل تحمل ابعادا ودلالات مهمة سوف تتضح معالمها تباعا.  

فالجولة تأتي مباشرة بعد المباحثات “الحامية” الصينية الأميركية في ألاسكا والتي اتبعت بزيارة وزير الخارجية الروسي لافروف الى الصين. وإذا كان التوقيع على بنود الاتفاقية بين الصين وايران هو ما “اقلق” الرئيس بايدن واطلق التحليلات والتوصيفات من عدة اتجاهات يحتاج الى تناول منفصل ولكن يمكن القول ان هذه الاتفاقية قد اتت تتويجا لتطور مضطرد في العلاقات بين البلدين منذ زيارة الرئيس الصيني شي جين بنغ الى طهران عام 2016 ،حين اعلن الطرفان حينها عن توافقهما على السعي الى “شراكة استراتيجية شاملة”.

على ان مصدر “القلق” يمكن ان يتعدى هذا الجانب خصوصا ان نتائج الزيارات “الثمينة” للبلدان الأخرى لم تكن اقل أهمية، حيث تم الإعلان عن سلسلة من الاتفاقات ،لاسيما في ما يتعلق بمواجهة جائحة الكورونا ،خاصة إنتاج اللقاحات والمساعدة على استئناف الحركة الاقتصادية الطبيعية في البلدان المعنية في اطار تفعيل مبادرة الحزام والطريق، بما فيها تكثيف المفاوضات لإتمام اتفاقات التجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي.

لقد كان معبرا ان تتوافق معظم الوسائط الإعلامية الغربية وروافدها المحلية على طرح الأسئلة المشككة، حول اهداف الصين من الحراك الراهن، وفي طليعتها ركزت بي بي سي متابعتها بالسؤال: هل تصبح الصين منافسا” للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط؟ حتى ان “الغارديان” حاولت استغلال بعض أصوات المعارضة الإيرانية للمطالبة بالكشف من تفاصيل الاتفاقية، بينما اعتبر البعض ان الحراك الصيني هو بمثابة “هجوم تصعيدي”، فيما ذهب البعض الاخر الى اعتبار ان الامور سوف تتجه الى لجوء الولايات المتحدة لدفع الدول المعنية للاختيار بين “ان تكون مع الغرب او ضد الغرب” ،وهي نفس المعادلة الصفرية الابتزازية السائدة التي تخضع لها المنطقة منذ عقود.

واذا كانت البيانات المشتركة الصادرة بعد الزيارات المختلفة قد اشارت الى النتائج المثمرة التي تحققت في الدول التي زارها الوزير الصيني، فان المقدمات والنتائج تسمح بتسجيل عدة ملاحظات حول مسلمات النظرة الصينية الى أمور المنطقة:

1-     تحرص الصين على اعتبار ان حضورها واهتمامها المتزايد في شؤون وقضايا المنطقة لا يتم من زاوية “التنافس والصراع” مع القوى الأخرى، بل انها تعتبر ان وجودها وتفاعلها مع قضايا المنطقة يأتي في سياقه الطبيعي وفي اطار العلاقات التاريخية التي تربطها سواء بالدول العربية او مع ايران وتركيا. الصين لا تسعى للنفوذ في المنطقة على حساب اميركا، وغيرها بل هي تنطلق من وجود مصالح مشتركة متعاظمة بينها وبين معظم دول المنطقة، وهي اكبر شريك اقتصادي للدول العربية وهي ترتبط باتفاقات تعاون وشراكات استراتيجية مع اعداد متزايدة من معظم هذه الدول، لذلك من الطبيعي ان نشهد المزيد من الانخراط الصيني في المنطقة وعلى اكثر من صعيد.

2-     تعتبر الصين انه ورغم تنافس المصالح بين القوى الاقليمية الأساسية ،لكن مصالح هذه الدول في التنمية والاستقرار يجب ان تتغلب. لذلك فان الصين ومن منطلق علاقاتها الجيدة مع جميع الأطراف تتمتع بدور إيجابي طبيعي خلافا للدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في تشجيع الانقسامات، بل خلقها في أحيان كثيرة. ان الصين تنطلق من مبدأ ان التنمية لا يمكن ان تنجح من دون السلام والاستقرار. ان تحقيق الاستقرار الإقليمي وانهاء النزاعات والصراعات، يؤمّن مصالح الصين في تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع دول المنطقة ويساهم في تعزيز فرص الاستفادة المشتركة في اطار مبادرة الحزام والطريق.

3-     “إن منطقة الشرق الأوسط هي ملك لشعوبها”، هو كلام واضح قاله وزير الخارجية الصيني. لذلك فإن الصين تعتبرانه يجب تخليص المنطقة من التجاذبات الجيوسياسية بين الدول الكبرى،وذلك يعد شرطا أساسيا لإخراج الشرق الأوسط من حال الفوضى والحروب الى الاستقرار الذي يشكل الممر الأساسي لتمكين دول المنطقة وشعوبها لاستكشاف طرق تنميتها الخاصة، وضمن اراداتها المستقلة بعيدا عن الإملاءات وسياسات الفرض والاستغلال لموارد المنطقة.  لذلك تشجع الصين دول المنطقة وشعوبها لإيجاد حلول سياسية لملفات سوريا واليمن وليبيا وغيرها من الملفات الساخنة ،كما انها تعتبر ان الدول الكبرى يجب ان تلعب دورا إيجابيا في هذا الاطار وليس العكس. 

4-     وفي سياق التزامها بالإنصاف والعدالة فان الصين الملتزمة بحل القضية الفلسطينية على أساس “حل الدولتين”، قد وعدت في سياق المبادرة التي طرحها وزير الخارجية بإطلاق دينامية جديدة على صعيد مجلس الامن الدولي الشهر المقل، بالإضافة الى استضافة متجددة لحوارات فلسطينية “اسرائيلية” في الصين، او في اطار مؤتمر دولي لهذا الخصوص.

5-     كما ان الصين وفي اطار مبادرتها الأخيرة قد ثبتت سياستها المبدئية والمتوازنة والمتميزة من خلال دعوتها المستمرة لتحقيق عدم انتشار الأسلحة النووية في المنطقة بشكل عام، إضافة الى العمل على تحقيق الامن الجماعي، خصوصا في منطقة الخليج والعمل على تسريع وتيرة التنمية والتعاون بين دول المنطقة مع مساعدة الدول في إعادة الاعمار.

6-     لقد وقعت الصين على وثائق التعاون لبناء الحزام والطريق مع 19 دولة في الشرق الأوسط. وعلى رغم الانشغال بمواجهة الجائحة فان العمل لتنفيذ بنود تلك الاتفاقات لايزال قائما مع زيادة العمل المشترك لمواجهة نتائجها ،لاسيما لتأمين اللقاح او حتى انتاجه بعد الاتفاق على بدء تصنيعه المشترك في الامارات العربية المتحدة. وفي سياق ذلك كله، فان الصين تؤكد انها تعمل على إقامة “معادلة تنموية جديدة” تستند الى فتح الأسواق الصينية المتفرقة امام دول المنطقة والى طرح التشارك في تطوير “الجودة العالية” لمشاريع مبادرة الحزام والطريق من ضمن مرونة كاملة لتنفيذ مشاريع ثنائية او متعددة الأطراف، مع فتح افاق جديدة للتعاون في مجالات التكنولوجيا الحديثة والمتطورة بما فيها تقنيات الجيل الخامس للاتصالات 5 Gوالطيران مع افاق أوسع للتعاون في مجالات الاقتصاد الرقمي، والصحة والتنمية المستدامة والمتكاملة.

ان “القلق” الذي ابدته بعض الدول الغربية لا يتصل في بعض الابعاد المباشرة للحراك الصيني في المنطقة فقط، بل انه يتصل على ما يبدو بإدراك هذه الدول ان الصين تقدم نموذجا مختلفا للتعامل مع هذه المنطقة، وهي وضعت نفسها في ظل الالتزام بمبادئ التعايش السلمي بما في ذلك عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى والاحترام المتبادل والتعاون المربح للجميع وغيرها في موقع يؤهلها لتكون وسيطا نزيها بين جميع الأطراف لأن اتفاقهم يقع في مصلحتها. وليس خافيا” ان هذه القوى “القلقة” لا تستطيع لعب هذا الدور، لأنه يخالف طبيعة سياساتها في المنطقة أصلا. لذلك تراها قد استنفرت وسائلها وادواتها للتشكيك بأهدافها، وربما بدأت في الكواليس تبحث عن كيفية مواجهة “الهجمة” الصينية في المنطقة، فيما يشكل التحرك الصيني الأخير فرصة متجددة للعرب دولا وشعوبا.

*رئيس الجمعية العربية الصينية للتعاون والتنمية

 (ينشر بالتزامن على موقع “الملف الاستراتيجي”)

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى