الجولاني/الشرع: استباق الثورة المضادة بإنهاء الثورة(حسام مطر)
الحوارنيوز – صحف
كتب د.حسام مطر في صحيفة الأخبار اليوم:
وصل أحمد الشرع (المعروف سابقاً بـ«أبو محمد الجولاني»)، قائد تنظيم «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً)، إلى دمشق «محرّراً» (فاتحاً، أيضاً سابقاً) العاصمةَ من نظام البعث السوري في 8 كانون الأول الجاري. منذ وصوله متغلباً إلى السلطة، استكمل الشرع بسرعات عالية تحولات الخطاب التي اعتاد عليها ساعياً إلى تقديم نفسه رجل دولة وسياسة وإسلامياً حداثياً وطنياً وقائداً للسلام والاستقرار. استدعى هذا الأمر عودة السؤال المعهود حول ما إذا كانت تحولات الشرع هي نتاج مراجعة فكرية عميقة أم أنها مجرد عملية تكيّف سياسي براغماتي (مع العلم أن المراجعات الفكرية غير منقطعة عن الواقع، ولا التكيّف البراغماتي منفصل عن الأفكار). بمعنى آخر هل هذا الشكل المستجد هو من ضمن ضرورات مرحلة التمكين ثم يعود بعدها الشرع «جولانياً»، أم أنها تحوّل هوية مستدام؟
عايش الشرع نكبات المشروع «الجهادي السلفي» في تجربتي «القاعدة» و«داعش» بعد عام 2001، كما أنه عاصر فشل التجربة الإخوانية بعد الربيع العربي (2011)، واختبر إخفاقات وأثمان عقد كامل من الحرب في سوريا، سواء في مواجهة الحكومة السورية أو في إدارة التوازنات والصراعات مع حلفائه وخصومه «الجهاديين» في سوريا. وخلال هذه الحقبة كلها كان على تفاعل (تعاوني وصراعي) سياسي وأمني مع دول أبرزها الولايات المتحدة وتركيا وقطر وروسيا وإيران، عدا عن كونه تصدى في السنوات الأخيرة لمسؤولية إدارة الواقع السياسي والاجتماعي في منطقة إدلب المنهكة بالحرب. الرحلة من الجولاني إلى الشرع لم تكن في الكتب بل غالباً في جحيم الواقع، لرجل يرى أن السلطة هي الطريق الضروري والأوحد نحو إنجاز تطلعاته. وهو ينطلق، على الأرجح، من افتراض أساسي مفاده أن هذا الطريق تحكمه الموازين الجيوسياسية في المقام الأول.
تكشف كلمات الشرع منذ دخوله دمشق أنه يسعى جهده إلى نيل الاعتراف بتحصيل بطاقة عضوية في النظام الإقليمي بتصديق النظام الدولي. وهو يريد كل ذلك بسرعة، وهذا ما قد يعكس قلقاً شديداً من «ثورة مضادة». والشرع في سعيه هذا لا يبدأ من الصفر إذ يستند إلى تسهيلات ورعاية من فاعلين إقليميين ودوليين، ولا سيما تركيا وقطر اللتان تجدان نجاح حركته رصيداً إستراتيجياً يعوّض سقوط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر. يتحدّث الشرع بكل ما يعتقد أن النظام الرسمي العربي والنظام الدولي الليبرالي بحاجة إلى سماعه من التزامات وتعهدات مستخدماً مفردات ومفاهيم مدروسة بعناية. وكان لافتاً انفعاله حينما سئل أخيراً عن رأيه بالمواقف الخارجية تجاهه مشدداً على عدم اكتراثه بذلك وأن ما يهمه تصديق الشعب السوري له.
يكثر الشرع من الحديث عن تصوراته تجاه القضايا الخارجية لبلاده علّه بذلك يقلّص مطالب الخارج في القضايا الداخلية، فيما نجد أن القوى الخارجية تركّز في مطالبها من الشرع على الداخل. لكن من المستبعد أن تنجح هذه المناورة، إذ لن يستكين الخارج (لا سيما ذلك المتوجّس من «الإسلام السياسي») لربطة عنق الشرع الأنيقة ولا بسمته ولحيته المشذبة ولا لنواياه الطيبة المعلنة ولغته الدافئة، فالنظام الرسمي الإقليمي والدولي يعمل بطريقة مختلفة تماماً، فهو لن يكرس زعامة متفرّدة وقوية من دون نفوذ مستدام داخل بنية الدولة السورية الجديدة والعملية السياسية فيها.
من هذا المنظار يمكن فهم خطابات الشرع حول إيران والعدوان الإسرائيلي والثورة والاستقرار وبناء الدولة. على المستوى الإقليمي مثلاً نجد أن الشرع، رغم تجديده لخطابه السياسي، تبنى الخطاب الرسمي العربي تجاه إيران في أشد صوره الرجعية والمتشددة (قال إن دور إيران في سوريا سببه الانتقام من أحداث حصلت قبل 1400 عام) والخطاب الأميركي الإسرائيلي في التمييز بين النظام والشعب الإيراني. وهو موقف يفيده لاسترضاء التيارات الحليفة ذات النزعة المذهبية ما يوفر له هامش مناورة أوسع في «تجديد» خطابه في المسائل الأخرى. وفي المقابل، كان خطابه تجاه روسيا، المعادية والمحاربة له، مرناً وسياسياً وذلك لكون روسيا ليست من ضمن الاستقطاب الإقليمي وبسبب طبيعة العلاقات التركية الروسية. واستكمل الشرع تأطير إيران بكونها صاحبة أطماع في سوريا ومصدراً للاضطرابات الإقليمية، وفي المقابل اختار تجاهل الاجتياح الإسرائيلي لجنوب سوريا وتدميرها لمقدرات جيشها. في مثال آخر، أكد الشرع أنه ليس بوارد «تصدير الثورة» (كأنها سلعة مادية فيما هي روح وإلهام)، بهدف تسكين قلق النظام الرسمي العربي من انبعاث موجة جديدة للإسلام السياسي. مع الإشارة إلى أن الشرع قال في خطاب سابق داخل المسجد الأموي إن انتصار الثورة هو «انتصار للأمّة»، ما استجلب ضده هجوماً من إعلام النظام الرسمي العربي.
على مستوى الرسائل الدولية، أي الموجّهة تحديداً إلى الولايات المتحدة، تبنّى الشرع خطاباً هزيلاً وتبريرياً يخص احتلال إسرائيل وعدوانها المتواصلين على سوريا. واحتج في ذلك بواقع سوريا المنهك وحاجتها إلى الاستقرار والبناء وهو ما دعا كثراً إلى مطالبته بموقف سيادي على الأقل. وفي أحاديث أخرى وصف المواجهة بين إيران وكيان العدو بأنها مواجهة إيرانية مع «المنطقة» (حتى لا يقرّ لإيران أنها في صراع مع العدو الإسرائيلي)، وألمح بما هو أوضح من التصريح أن سوريا لن تكون ممراً للسلاح لقوى المقاومة. في مثال آخر، قال الشرع إن الثورة أسهمت في منع حرب عالمية ثالثة وأصبحت عامل استقرار إقليمي وهي عبارات تتقاطع تماماً مع لغة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ورسالة له. وسارع الشرع إلى إعلان نهاية الثورة وبداية حقبة الدولة التي لها منطقها وعقلانيتها وواقعيتها (تبرّر له براغماتيته)، فيستخدم مفردات السيادة الويستفالية حول الدولة الوطنية والسيادة وعدم التدخل في شؤون الآخرين والرفاه ونبذ العنف وحصر السلاح بيد الدولة.
يتحدّث الشرع، لشدة اندماجه في دوره الجديد، كرئيس دولة إقليمية مستقرة، فيطمئن الوزير السابق وليد جنبلاط أنه «نحن والشركاء الدوليون سنساعد لبنان ليعود باريس الشرق»، وفي موضوع انتخابات الرئاسة اللبنانية يصرّح أنه «إذا توافق اللبنانيون على قائد الجيش جوزف عون رئيساً للجمهورية فسندعمه». هذه المواقف كانت لتكون طبيعية جداً لو أنها صادرة عن الشرع بعد سنوات من استتباب حكمه واستقرار سوريا ونهوضها واستعادة وزنها الإقليمي ونيل نظامها اعترافاً دولياً. لكنها في هذه اللحظة تشير إلى استعجال الشرع إثبات تلبية شروط الانتساب الأميركية والإقليمية إلى النظام العربي، وربما تبرز بعداً نفسياً لدى الشرع في مدى توقه الشخصي لدور القيادة السياسية.
يمكن فهم وتفهّم قلق الشرع من ثورة مضادة في بلد بمركزية سوريا وتعقيداتها، وغالباً هو يتّبع نهج إردوغان في التمكين المتدرج إلى حين ضبطه لتوازنات القوة في النظام الجديد. وقد يكون يأمل أن مسارعته إعلان نهاية الثورة ستكفيه شر الثورة المضادة أو ستمنحه وقتاً أطول لمأسسة نفوذه قبل أن تخرج بعض العواصم الإقليمية من صدمة السقوط المباغت للنظام. لكن إفراط الشرع في الرسائل الإيجابية في كل اتجاه سيثير الشكوك والريبة حول جديتها، وإعلانات النوايا الطيبة لن تكون كافية لاسترضاء القوى الخارجية القلقة من دون أن يمنحها مراكز نفوذ داخلية ضامنة لمصالحها، وتقدّم جدول الاستحقاقات سيضع كلماته قريباً موضع الاختبار، وكل خطوة إضافية نحو الحاضنة التركية القطرية ستولّد بذاتها مخاطر وانقسامات، ومع تكريسه لصورة الإسلامي المنضبط بقواعد النظام الدولي (الأميركي) والقادر على الحكم فإنه بذلك يكون تماماً «الإسلامي» الذي يروّع النظام الرسمي العربي، الخليجي تحديداً.
* أستاذ جامعي