رأيسياسةمحليات لبنانية
الثورة تنتظر كلمة السماء(نسيم الخوري)
د.نسيم الخوري
-
ما رأيكم أوّلاً بالمنظومة؟ هذا المصطلح المُعقّد الدارج إعلاميّاً اليوم في لبنان؟
-
لنعرّفه باعتباره ترجمةً لمصطلح “Système” يفترض خروجاً في العلاقات من المنطق الثنائي binaire حيث إمكانيات الفصل والعزل إلى المنطق الثلاثي Ternaire وأكثر حيث إمكانيات الجمع والتفاعل المنطقي الصلب شبه المستحيلة.
-
لن تفهم لكن في الجواب أقول لك أنّ المنظومة قتلت الثورة في لبنان.
-
كيف؟
-
بدأت “الثورة” أو “الحراك” في لبنان في 17 تشرين الأول أكتوبر 2019 على شكل هبّة شعبيّةً عارمة نزل فيها مليون وأكثر إلى الشوارع وبانت صادمة جدّاً يومها لكنها تبدو اليوم تقليدية، لسببين أساسيين، أوّلهما لأنّها جاءت كردّة فعلً غاضبة لأمرٍ ربّما يبدو تافهاً جدّاً اليوم هو إعلان الحكومة اللبنانية فرض رسمٍ مالي بسيط على الاتّصالات المجّانية عبر تطبيق “واتس أب” الذي كان وما زال وصار يُقيم فيه معظم اللبنانيين وحتّى الثوريون في مجموعات لا عدّ لها ولا حصر، وثانيهما لأنّ ذاك الغضب جاء ملفوفاً بشعارٍ مستوردٍ ومترجمٍ ومرذولٍ هو :”الشعب يريد إسقاط النظام”. هكذا أُعيدت القشّة إلى مكانها لأنّها لم تقصم ظهر البعير، إذ سرعان ما استدركت الحكومة الأمر وتراجعت عن فرض الرسم المالي.
-
استمرّت الاحتجاجات في تسميات وشعارات تقليدية مألوفة أو جديدة مبتكرة وصلت ذروتها مع رفع قبضة “الثورة” في ساحة “الداون تاون” أو ساحة “بيروت مدينة عريقة للمستقبل” التي كانت معروفةً تاريخيّاً ب “ساحة الشهداء”. لم أصل إلى تعداد التنظيمات والفصائل والجمعيات التي تابعت المسيرة حيث وصل عددها التقديري إلى 133 مجموعة غير متجانسة يجمعها ويشتّتها شعار جديد هو: “كلّن يعني كلّن”. استفزّ هذا الشعار رؤساء الأحزاب والبرلمانيين والوزراء على تنوّعاتهم وخلافاتهم وشعروا بالمرارة والأذى ولربّما الخوف على مناصبهم وحياتهم. يُفترض القول أنّ هذا الشعار وما رافقه من مظاهرات حقّر كبار المسؤولين وأربكهم حتّى مع أفراد عائلاتهم، بعدما عاثوا في أرض لبنان وسمائه والعالم فساداً منذ ال1992 بلغت روائحه وقبائحه الدنيا. بالمقابل، أفرح الأمر أو أرضى سرّاً شريحةً واسعة من الأزلام والأتباع والجهلة الناهبين للدولة، بصفتهم مرابعين أو موظّفين مجرمون لرضى أسيادهم فاتّخذوا مواقع المدافعين والمقاتلين عن زعمائهم من ناحية، بينما راح بعضهم يسرّب الوثائق والأرقام الدامغة للإعلاميين على نهب الدولة مدفوعين بحقدٍ من أوصلهم إلى مناصب وجاهية وخطيرة لم تمكنهم من لحس أصابعهم يكسبوا إلاّ فتات الأطباق والثروات المشلوحة فوق طاولات قصور الحكام للتقاسم. وبدا السارقون الكبار حزمةً واحدة لم تجد سوى القمع والقتل والخطف اليومي الغامض وإفراغ الخزينة عبر فذلكات الدعم الذي صبّ في جيوب التجار والوكلاء الحصريين. هكذا وقع الشعب جائعاً ذليلاً على أبواب المصارف ومحطّات الوقود والأفران والدكاكين و”المولات” والحوادث الدموية بالعشرات يومياً في عشوائية وفلتانٍ لا يمكن رصده وتصديق أو فهم مستقبله وتداعياته. ما معنى أن يقف صاحب سيّارة مرسيدس كلّ يوم في طابور طويل ليملأ خزّانه بالبنزين سوى التخزين لتأمين فردانيته أو للبيع وتأمين الربح؟
-
تدفّقت مؤخّراً أسماء مئات الخبراء في المال والاقتصاد والسياسة. لم يكن يسمع بها أحد داخل لبنان وربما خارجه، فحوّلوا الشاشات ووسائل الإعلام الموزّعة طائفياً وسياسياً إلى منصّات للدفاعات الخبيثة والمغرية والمتناقضة والتنظيرات المدفوعة الأجور، لتتهذّب الشعارات وترتدي الأحاديث في التغيير ثياباً أكاديمية بألسنةٍ عربية فرنسية إنكليزية ومصطلحات شاقّة على الناس اللذين أهملوا بل نسوا شعار “كلّن يعني كلّن” ووقعوا بلهاء أمام تسميةٍ جديدة هي “منظومة الفساد والفاسدين في لبنان” فغادروا أحلام التغيير بحثاً عن الرغيف وخرست ألسنتهم هروباً من القضاء والأمن والسجون في الوطن الديمقراطي عفواً الديكتاتوري المستورد.
حملت “المنظومة” كلمةً مظلمةً عصيّةً على التفسير والتغيير وكأنّها حزب شمولي يقوده رجالات ينظّرون في العلوم والمناهج التاريخية والاجتماعية والنفسية جعل المناخ العام معقداً غامضاً أدار الناس قفاهم نحوه قابلين بظواهر الانحطاط الشامل والتغيير الصعب بل المستحيل في لبنان عبر كلّ ما هو مطروح.
-
خلاصة: تبدو المنظومة طبيعية لها قوانينها وعلاقاتها وعوالمها كالمنظومة الشمسية أو حيّة مثل الجسم البشري أو التجمّعات الثورية العفوية التي تتعاضد كلُّها لتقلب الواقع، ونجدها في المنظومات المركبة مثل المؤسسات والدول، منفردةً أو مجتمعة، وهذه مسائل شديدة التعقيد. هكذا حُشرت الثورات في رمي الحجارة على قشرة المنظومة الصلبة “الحربائية” التغيّر والتحوّل الإعلامي والسياسي، بحيث يصعب ضبط المتغيرات المتوقعة أو الحاصلة لأنّ متغيّرات كثيرةً أخرى تكون قد تولّدت بانتظار الضبط أو التوقّع.