دولياترأيسياسةغير مصنف

التابوت والنرجيلة العثمانية..والخروج من التاريخ(محمد قجة)

محمد قجّة – الحوارنيوز
1 – ذات يوم، نشرت المجلة الفرنسية الساخرة “لوكانار انشينييه” رسماً كاريكاتيراً يمثّل تابوتاً كبيراً تجمّع فيه زعماء الاتحاد الأوروبي وهم يدخنون النرجيلة العثمانية، وإلى جانب التابوت يقف الرئيس الأمريكي ضاحكاً ساخرا وهو يهمّ بإغلاق غطاء التابوت، مودّعاً حلفاءه الأوروبيين ليضعهم خارج التاريخ.

2 – ولو عدنا إلى مطالع القرن العشرين لرأينا كيف كانت دولة النرجيلة العثمانية تلفظ أنفاسها، ويتقاسم الحلفاء المنتصرون تَرِكَتها وتركة الامبراطوريتين النمساوية والالمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وقد قال “جورج كليمانصو” كلمته المشهورة حينما كان رئيس وزراء فرنسا: (إننا نطرد الخيول الآسيوية خارج هذا العصر).
وأفرزت الحرب الأولى قوتين كبيرتين هما: بريطانيا بإمبراطوريةٍ لا تغرب عن بحارها الشمس، وفرنسا بقوةٍ بريّة وسياسية تمتد مستعمراتها عبر القارات. ولكن الأمر لم يدم طويلاً، فخلال ربع قرن كان الصقر البريطاني العجوز يتهاوى مهيض الجناح ويلفظ أنفاسه في قناة السويس عام 1956، وكان الديك الفرنسي المرهَق يغادر الحلبة محطّماً في ديان بيان فو والجزائر.

3 – ومن جديد تفرز الحرب العالمية الثانية قوتين عظميين هذه المرة أكبر من بريطانيا وفرنسا، ويعرف العالم مناخ الحرب الباردة بين العملاقين السوفيتي والأمريكي. وعبر المحيط الأطلسي كانت سلّة المساعدات تتدفّق من خلال مشروع (مارشال) الأمريكي، مساعدات تقدّمها أمريكا الحفيدة لجدتها العجوز أوروبا.
وإذا كانت الخيول الآسيوية قد غادرت العصر والتاريخ برأي “كليمانصو” فها هي خيولٌ آسيوية جديدة تدخل العصر، ولكنها خيول صفراء نقلت مركز القوى إلى المحيط الهادي.

4 – وقبل أن يمضي نصف قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية كان أحد العملاقين يترنّح ويتفسّخ من داخله ويسقط سقوطاً مدويّاً. إنه الاتحاد السوفياتي الذي لم تفِدْه صواريخه ورؤوسه النووية في اكتشاف طائرةٍ شراعية يقودها شابٌّ ألماني ويحطّ بها أمام جدار الكرملين في موسكو. هل تذكرون قصة تلك الطائرة؟ كان ذلك في أواسط الثمانينات، ومن يومها ظهرت الثغرات والثقوب في ذلك الجسم الضخم جداً ولكنه المترهّل جداً.
*****
5 – منذ ما قبل الحرب الثانية كان الألماني “شبنغلر” قد نشر كتابه (تدهور الحضارة الغربية) ثم نشر “ولسن” الإنكليزي كتابه (سقوط الحضارة) وأعقبه المؤرخ الأمريكي المعاصر “بول كندي” بكتابه (نشوء وسقوط القوى العظمى).
وخلال حركات الشباب الغاضبة في أوروبا كان الفرنسي “جان جاك سرفان” يقول: (لقد انتهت أوروبا).

6 – وتدخل البشرية عقدَ تسعينيات القرن العشرين وتدلف إلى القرن الحادي والعشرين، وهي تعيش حالةً فريدة من انعدام التوازن ومن سيطرةٍ أحادية متغطرسةٍ تملك قوةً لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، وتتلفّت أوروبا العجوز باحثةً عن شواطىء المتوسط الجنوبية تحاورها، وعن أفريقيا تساندها، وعن الشرق الأقصى تمدّ يدها إليه.

وفي ذلك كله تشعر أوروبا العجوز أن السوط الأمريكي الملوّح من خلف المحيط لا يرحم أحداً. ألم يقل يوماً “كيسنجر” (أن أوروبا قد فقدت دورها وغادرت التاريخ).. ألم يقل “بريجنسكي” (أن أوروبا لا علاقة لها بالقرار السياسي العالمي).. ثم يأتي أخيراً “رامسفيلد” ليقول وسط الذهول الأوروبي (أن أوروبا مجرّد مساحات عقارية لا وزن لها)..وهاهو الرئبس الامريكي بايدن ” يقيم حلفه الانكلو سكسوني مع جدته بريطانيا ، ومع استراليا التي تعتبر محافظة بالتاج البريطاني . وهو بذلك يريد حصار الصين وتحديد قوتها ، ومن المتوقع ان ينضم الى حلفه اعداء الصين في آسيا : الهند واليابان وتايوان وكوريا الجنوبية .

7 – ولكن الزلازل الاستراتيجية اصابت الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الاطلسي بالانقسام والتباعد وشعور الدول اللانينيةانها اصبحت خارج نطاق القرار : فرنسا ، ايطاليا ، اسبانيا ، البرتغال ، بلجيكا ، والدول الاقل شأنا ..

8 – لقد صدر كتاب “بول كندي” قبل السقوط المروع للاتحاد السوفياتي، وكان قد تنبّأ بذلك في كتابه، وفي الكتاب نفسه يحلّل الكاتب عواملَ القوة والضعف في المجتمع الأمريكي، ويرسم صورةً قاتمة لذلك المجتمع خلال نصف قرن، مقارناً دراسته مع سقوط الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، كالإغريق والرومان والمغول والعرب والقياصرة الروس والألمان.والعثمانيين .

9 – العصر باقٍ.. ويخرج منه مَن يخرج، ومسيرة التاريخ لا تتوقف، وشعلة الحضارة تتناقلها أيدي الشعوب.. تلك الحضارة التي هي أقوى من كل الكوارث والحروب.
ولعلّنا نتعلم مما حدث أن الحياة الكريمة حقٌّ لجميع الشعوب، وأن قيمة الإنسان فوق كل اعتبارات المصالح، وأنّ أمنَ الإنسان في بيته وعمله وأسلوب عيشه يجب أن يكون فوق كل الحسابات، ولجميع الناس في شتى أقطارهم وأوطانهم.
*كاتب ومؤرخ – سورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى