رأي

الإنسانيّة في ألمانيا اصبحت مِنْ الممنوعات (جواد الهنداوي)

 

د.جواد الهنداوي – الحوار نيوز

 

     في آخر وصفْ لجرائم الابادة والدمار في غزّة ،وردَ على لسان ممثل السياسة الخارجية الاوروبية ،السيد جوزيف بوريس ،يوم الاثنين الموافق ٢٠٢٣/١٢/١١، خلال لقائه وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي ، وقال فيه إن ” ما تشهده غزّة من دمار ،اسوأ مما حصل في المانيا ابان الحرب العالمية الثانية …” .

علينا ،اذاً ان ندركُ ابعاد هذه المقاربة ؛ قطاع بمساحة جغرافية لا تتعدى 365 كيلو مترا مربعا ، شهدَ ولايزال ضررا و دمارا وقتلا اكثر نسبياً مما شهدته المانيا  ابان الحرب العالمية الثانية ، والتي تبلغ مساحتها ( 359000 كلم مربع) ، الف مرة اكثر من مساحة قطاع غزّة ! وعلينا ان ندرك أيضاً الكم والمقدار الهائل من القنابل و الصواريخ المدمِّرة والذكية والمحرمة دولياً ،التي أُلقيتْ على قطاع مكتظْ بالمدنيين ، في حقبة زمنية ،حَسِبنا فيها مجتمعا إنسانيا متحضّرا ،يفتخرُ بما أنجّزه من تطّور في انسانيتّه ، حتى اصبح حق الإنسان في التحّول من جنسٍ إلى آخر ( ذكر إلى أنثى او بالعكس ) او من صنفٍ الى آخر ( من سلوك إنسان إلى سلوك حيوان ) مكفولاً و محميّاً في القانون . ولكن ،على مايبدو ، مفهوم الإنسانية له معاني وتطبيقات خاصة لدى الحكام الظالمين والمتصهينين ، حيث يفضّلون الاستمرار في ابادة الأطفال و النساء على التفاعل مع دعوات شعوبهم ومندوبي دول اخرى في وقف إطلاق النار في غزّة .

مُحِقٌ  الكاتب الروسي الشهير ” مكسيم غوركي ” حين يقول ” انَّ هولاء الأمريكيين لديهم كل شئ يتمناه الإنسان، الّا شيئ واحد هو الإحساس بالإنسانية ” . حين دخلَ الاديب الإيرلندي ” أوسكار وايلد ” ميناء نيويورك واستوقفه شرطي الجمارك وسأله  هل تحمل معك ممنوعات ؟ فأجابه ،نعم احملُ معي إنسانيتي  !

اصبحت الإنسانية في المانيا من الممنوعات حين تحظر السلطات على شعبها التعبير عن تضامنه مع شعب غزّة ،مع أطفال غزّة وهم أشلاء . حين يُتهمْ من يطالب بوقف الابادة الجماعية في غزّة بالتضامن مع الإرهاب ؛ وحين يُحاسب رئيس جامعة ،كما في احدى الولايات الأمريكية، بالسماح للطلبة بالتظاهر من اجل وقف الحرب .

في ولاية سكسونيا -أنهالت الالمانية ، أصبحَ على المهاجر المقيم منذ مدة طويلة ، ما يؤهله لطلب الجنسيّة، أن يعترف بإسرائيل كدولة والا يكون معادياً للسامية ( اي لإسرائيل ) ،والا يؤيد الإرهاب ( اي المقاومة ) .

المانيا ،لم تعدْ تلك التي عرفناها في تسعينيات القرن الماضي قبل وبعد توحيدها ، والتي تبنت مبدأ الحياد الايجابي في سياستها الخارجية ،حيث عملت وسعت إلى التدخل فقط في إطفاء الحرائق وفي الوساطات الإنسانية ،وفي تبادل الاسرى بين حزب الله واسرائيل عام ٢٠٠٤ وفي عام ٢٠٠٨ .

هل التعايش مع الشعور بعقدة الذنب في جرائم النازية تجاه اليهود في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي يجعل المانيا داعما و مؤيدا لما تقوم به إسرائيل في غزّة ؟

هل  دعم جرائم الابادة الجماعية في غزّة يحرّر تاريخ المانيا من النازيّة أم يشوّه ويسوّد حاضرها وحضارتها، ام أضحى لبعض العالم متبنيّات اخرى في مفاهيم الإنسانية والعدالة ؟

مكانة وتأثير المانيا في اوروبا وفي العالم يعتمدان على دورها الاقتصادي والنقدي ،وليس السياسي ، و من اجل الحفاظ على مكانتها و تأثيرها ،لا بدّ من النفاق والتوسّل إلى اللوبي الصهيوني ،الذي يتحكم في الاقتصاد وفي النقد ،ولابد من الانصياع إلى الاملاءات الأمريكية .

موقف المانيا المنبطح لأمريكا ولاسرائيل ، والمتشدّد جداً ازاء شعب غزّة ومعاناته هو رسالة إلى روسيّا ايضاً ،مفادها أنَّ المانيا اصبحت امريكيّة في السياسة اكثر من أمريكا ،واصبحت ناتويّة في كل تطلعات و توسعّات الناتو .

لا ينبغي ان تكون عقدة ذنب النازية مُبرّراً لحكومة المانيا الاتحادية في دعم جرائم الابادة الجماعية في غزّة ، و ليس من المقبول ان تمارس دول اوروبية قمع حق التعبير في التضامن مع شعب غزّة والمطالبة بوقف الحرب ،او بالأحرى ،وقت قصف المدنيين ، بذريعة معاداة الساميّة .

ولماذا لا تكون ابادة شعب غزّة و محاولات تهجيره هي ايضاً معاداة للساميّة ؟

 *رئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات /بروكسل / في  ٢٠٢٣/١٢/١٢ .

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى