الإستقلال..ذكرى كئيبة بين الإسم والإثم (واصف عواضة)
كتب واصف عواضة
كانت ذكرى الاستقلال هذا العام كئيبة،بل أكثر كآبة من أي عام مضى. في الأساس لم نكن يوما دولة مستقلة بما تحمله الكلمة من معنى السيادة. ولكن هذا العام جاءت الذكرى مشفوعة بحالة من اليأس واللامبالاة ،لأن هموم الناس أكبر من أن يفكروا بيومهم الذي يقال إنه “اليوم الوطني”.
وحتى لا نجلد انفسنا كثيرا، ونذرف الدموع الحرّى على اطلال استقلالنا، فإن حالنا لا يختلف كثيراً عن حال الكثير الكثير من دول العالم، الصغرى منها والكبرى، ويصح فينا المثل العامي: “كلنا في الهوى سوا”.لكن الآثام العظام التي ارتكبناها بحق بلدنا منذ العام 1943 ،لم تبق من الاستقلال غير الإسم.
وبعيدا عن الوصايات والاحتلالات والتبعيات والاتهامات والأوامر والتعليمات، وكل ما لذ وطاب من هذه التعبيرات، وباختصار شديد، يمكن القول إن دولة منتجة ومنهوبة هي دولة غير مستقلة، فكيف اذا كانت هذه الدولة منهوبة وغير منتجة من الاساس؟ وكيف يتعايش الاستقلال والحاجة؟ وكيف يكون مستقلاً من يستورد من الخارج، المحروقات والقمح والأرز والحليب والخضار والفواكه واللباس والمداس وإبرة الخياطة، حتى لا نقول السيارات والمعدات والأسلحة.. وحتى الماء والهواء؟
وفي المناسبة لم أجد يوما أبلغ من الكلام الذي أطلقه عن الاستقلال الزعيم الهندي جواهر لال نهرو ،في المؤتمر التأسيسي لدول عدم الانحياز في باندونغ في أندونيسيا عام 1955،حيث كانت له نظرية خاصة استباقية في هذا المجال ، وهو الذي عانى مع معلمه الأكبر المهاتما غاندي صلف الاستعمار الانكليزي في بلاده، وعايش تحررها واستقلالها عن بريطانيا العظمى.
نقلت هذا الكلام في مقالة ذكرى استقلال لبنان عام 2008 في جريدة “السفير”،ووقع في النفس موقعا لا يجاريه أي كلام في هذا المجال.
في خطابه الشهير خلال المؤتمر المذكور توجه نهرو الى المشاركين الذين كانوا قد أتحفوا الحضور بقصائد الشعر والنثر عن الاستقلال ومباهجه ،وكان قد توهموا انهم استقلوا حديثا،فقال:
ايها السادة،
سوف تجدون لأنفسكم سلطة على رعاياكم، ولكن لن تجدوا سلطة على غيرهم. رعاياكم سوف يطلبون منكم «جوائز» الاستقلال، ومن حقهم أن يتوقعوا تحسن أحوالهم بعد الاستقلال: فهل لديكم ما تعطونه لهم؟ أشك كثيراً. لماذا؟ لأنكم جميعاً منهوبون ومواردكم نهبت فعلاً أو هي مربوطة بنُظم دولية تواصل عملية نهبها. فماذا سوف تفعلون؟ تغيرون اتجاه سلاحكم من أعدائكم القدامى إلى أعداء جدد سوف ترونهم داخل بلادكم؟ ماذا ستفعلون؟ سوف تجدون في بلادكم طبقات أكثر قوة من جماهير شعوبكم لأنهم تعلموا كيف يتعاملون مع النظام القديم، وفي ظله وحماه كوّنوا ثروات ورتبوا مصالح. إلى من سوف تنحازون؟.. الى القلة القوية أو الى الأغلبية المقهورة..؟
ويضيف نهرو بهدوء وقسوة: بعض رفاقنا هنا في هذه القاعة لديهم بترول وبعضهم لديهم نحاس وبعضهم زنك وحديد وماس أيضاً.. ماذا سيفعلون بهذه الموارد؟ أحدنا قد يتحمس ويعلن أمامنا أنه ينوى استرداد هذه الموارد من أيدي غاصبيها. حسناً، مصدّق فعلها في إيران وأمّم البترول، فماذا كانت النتيجة؟ وجد نفسه في طريق مسدود بالحصار، ثُم وجد نفسه في السجن حتى الآن بالانقلاب المضاد. إن مستعمريكم السابقين رتبوا أنفسهم قبل أن يوافقوا على الاستقلال، وأقاموا اوضاعاً جديدة تستبدل أعلامهم القديمة بأعلامكم الجديدة، ولكن هل سيغير هذا من واقع الأمر شيئاً؟.. سوف تجدون أنفسكم أمام مشاكل، وسوف يندفع بعضكم الى أن يطلب من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي قُروضاً، فهل سألتم أنفسكم من هم هؤلاء الذين يسيطرون على صندوق النقد الدولي وعلى البنك الدولي؟ انهم نفس جلاديكم السابقين. أخشى أن اقول لكم انكم سوف تذهبون الى الأسياد القدامى طالبين منهم أن يساعدوكم على مسؤولية الاستقلال. وأي وضع هذا الذي تستنجد فيه الضحية بالجاني حتى يساعدها على تلافي آثار جريمته؟ ان جريمة الاستعمار لن تصححها قروضه، وانما سوف تزيدها سوءاً.
ويقول نهرو: سوف تجدون أنفسكم بعد الاستقلال في مشاكل حدود مع جيرانكم. خرائط معظم بلدانكم جديدة رسمها الاستعمار. هل ستدخلون بعد الاستقلال في حروب مع جيرانكم؟ مع بعضكم؟ حسناً سوف نجد أنفسنا في سباق سلاح مع هؤلاء الجيران. سوف نصنع جيوشاً محلية، لان كل البنى الاجتماعية والاقتصادية لدينا هشة، فإن هذه الجيوش سوف ينتهي الأمر بها الى أن تأمرنا بدل أن تنتظر الأمر منا! أستطيع أن أرى المستقبل أمامي بوضوح حين يصبح عدد أعضاء الأمم المتحدة مئة أو مئة وعشرين أو مئة وأربعين عضواً. وليكن أن بينهم مئة دولة حديثة الاستقلال، فما هو أثر ذلك؟ انه كارثة محققة. هل هي مسألة عدد أصوات؟ وماذا سيفعل عدد الأصوات بالأمم المتحدة؟ كيف يمكن أن تقبل الولايات المتحدة أن يتساوى صوتها مع صوت كوستاريكا، أو يقبل الاتحاد السُوفياتي أن تصبح قيمة صوته هي نفس قيمة صوت أفغانستان؟ لن يقبلوا المساواة في الأصوات، وعندها سوف يتركون لكم الأمم المتحدة تتكلمون فيها على هواكم، ثم تكتشفون أنها أصبحت مجرد ناد أو مقهى يذهب إليه المندوبون ليشربوا الشاي ويلعبوا، وبدل أن يلعبوا بالورق سوف يلعبون بالكلام….
ويختم نهرو: إنني لا أقصد أن أزرع اليأس في قلوبكم، ولكنني أريدكم أن تأخذوا قضية الاستقلال جداً. إن السيطرة الجديدة لن تكون بالجيوش ولكن بالتقدم. أنتم متقدمون إذن أنتم سادة.. أنتم متخلفون إذن فأنتم مقهورون. وأسألكم ما هو التقدم؟ اجتماعياً بالدرجة الأولى. مَن منكم يستطيع أن يعطي لشعبه نظاماً اجتماعياً يحقق العدل لجماهيره وبأي ثمن؟أخشى أننا سوف نجد مصائر التنمية عندنا في أيدي بيروقراطيات متعفنة في بعض البلدان وعاجزة في بعضها الآخر…
وبعد،
لقد مضى على هذا الكلام 66 عاما،وهو ما يزال يحفر عميقا في نفوس مجتمعاتنا ،وهو يكاد ينطبق على واقعنا اليوم وكأنه خطاب في الذكرى المجيدة التي لم يتورع لبنان عن الاحتفال بها. ولا تحتاج عبقرية نهرو الى اي تعليق عندما يلتفت الاستقلاليون الى احوالهم، ليس في لبنان فحسب، بل في معظم الكرة الارضية. لقد صحت كل نبوءات الزعيم الهندي الكبير، من دون ان يستدرك الكثيرون كيفية الوقوع في شركها.
طيب الله ثرى نهرو.. وكل استقلال وانتم بخير.