كتب واصف عواضة
فتحت الإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد شهية اللبنانيين على التداول في ما يجب أن يصار إليه في لبنان ،خاصة لجهة استعادة الأموال المنهوبة، والتي قدرتها اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد في تونس منذ أواخر 2011،بنحو 8.4 مليار دولار أميركي.
وقد توقف اللبنانيون بكثير من الانتباه والإعجاب أمام مشهد الرئيس التونسي عبر التلفزيون، وهو يحمل لائحة قال إنها تتضمن 460 إسما من الشخصيات التونسية التي نهبت أموال الشعب التونسي ،وأنه يطرح على هؤلاء ما أسماه “صلحا جزائيا” لاستعادة هذه الأموال،وهو طرح “حبي” يقضي بإعادة هذه المبالغ الطائلة واستثمارها في مشاريع تخدم الشعب التونسي.
إلا أنه فات المتحمسين للإجراءات التونسية الفارق الكبير في مقتضيات الدستور التونسي عن الدستور اللبناني.فالأول يمنح الرئيس صلاحيات تخوله اتخاذ القرارات الحاسمة ،بينما الثاني لا يخوّل رئيس الجمهورية اللبنانية سوى سلطة الاعتراض على القرارات،ولا يملك سلطة القرار في لبنان إلا مجلس الوزراء مجتمعا أو مجلس النواب ،والمؤسستان عادة تضمان الأحزاب والكتل والقوى السياسية التي توجه الى معظمها تهمة نهب المال العام.
على أن اقتراح “الصلح الجزائي” الذي طرحه الرئيس التونسي ،شكل مادة للتداول في إمكان اعتماده في لبنان ،بديلا ل”لازِمة استعادة الأموال المنهوبة” التي يرددها اللبنانيون بصورة دائمة.لكن لهذا البديل أيضا معوقاته العملية أيضا ،ليس في لبنان فقط وإنما حتى في تونس أيضا.
فاستعادة الأموال المنهوبة في تونس ليس بالأمر السهل في رأي خبراء اقتصاديين تونسيين، فهو يحتاج إلى إجراءات تجبر رجال الأعمال الفاسدين على إعادتها.فبعض المتورطين من رجال الأعمال دخلوا بعد عام 2011 في علاقات مشبوهة مع كتل سياسية بارزة عملت على دفن تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق المنوه عنها سابقا،بهدف التستر على أكثر من 400 رجل أعمال متورط في نهب أموال الدولة، استفادوا من قروض بصفة غير قانونية ومن دون ضمانات، وحصلوا على عقارات تابعة للدولة وأراض زراعية دون وجه حق.
ولذلك يرى الخبراء التونسيون أن ما اقترحه الرئيس سعيّد من إجراء “صلح جزائي” أمر صعب من حيث التحقيق، وربما يكون طرحا طوباويا، إذ ليس من بين رجال الأعمال من سيبادر ويذهب للمناطق الفقيرة ليبني مستشفى أو مدرسة أو يعبد طريقا .
ويرى هؤلاء أن على رئاسة الجمهورية إصدار قرار يلزم المعنيين بإرجاع الأموال للدولة فورا، أو تقع مصادرة ممتلكاتهم ومصانعهم وتجميد حساباتهم البنكية، فإما الدفع أو المصادرة.
في لبنان ثمة معوقات أخرى تحول دون “الصلح الجزائي” حتى لو توفرت سلطة جازمة لاتخاذ هذا القرار.فالتحقيق في الأموال المنهوبة في لبنان لم يأخذ حتى الآن طريقه العملي بصورة رسمية،وهو ما يزال مجرد أحاديث متداولة في وسائل الاعلام ،وليس معروفا بدقة من هم الذين نهبوا الأموال،بانتظار التدقيق الجنائي الذي يُحكى عنه عند كل مفترق ،وأغلب الظن أن عراقيل واضحة تواجه إنجازه.
هذا من جهة ،ومن جهة ثانية ما من ناهب للأموال سوف “يتبرع” بالكشف عن هويته ولا عن مسروقاته أمام الشعب اللبناني.وعليه يبدو كل “النهّابين اللبنانيين” بحكم القانون، أبرياء حتى تثبت إدانتهم.
في الخلاصة لا يمكن المقارنة بين لبنان وتونس في هذا المجال ،لا من حيث الصلاحيات الدستورية ،ولا من حيث السلطة الشفافة التي تملك اتخاذ القرار ،ولا من حيث التركيبة السياسية ذات اللون الطائفي الواحد في تونس.وعليه فإن استعادة الأموال المنهوبة في لبنان تتطلب تغييرات جذرية في بنية النظام السياسي الطائفي ،تستدعي وجود سلطة مركزية تقوم على فرض القرارات والإجراءات الزجرية ،وليس بالتوافق والتفاهم وفق صيغة الديموقراطية التوافقية المعمول بها حاليا،إذ من الطبيعي والمنطقي ألا يحاسب ناهبو المال العام أنفسهم بأنفسهم.
نرجو ألا يُعتبر كل ما تقدم تبريرا لعدم استعادة الأموال المنهوبة ،وإنما هو وضع للأمور في نصابها الصحيح ،كي لا تبقى الأوهام والرهانات الخاطئة هي التي تحكم هذه القضية.والسلام على من اتبع الهدى.
زر الذهاب إلى الأعلى