هدى سويد – إيطاليا
"ستتحرر البلاد من الفيروس كوفيد 19 ما بين 5 و16 من شهر تموز المقبل بينما ستتضاءل الإصابات خلال الأسبوع المقبل" .
خبر مرّ دون ضجيج اليوم حسب المؤسسة الاقتصادية والمالية الإيطالية المُسماة "أينودي" ، ولكن بالطبع إن كان ذلك صحيحا هذا لا يعني إنتهاء الوباء والقضاء عليه ، فمن المعروف أن على الجهة الرسمية والصحّية تأكيد ذلك علما أن الأخيرة حددت أسبوعين مصيريين الحالي والآتي ، وعلى ضوء النتائج سواء بانحسارأو ازدياد حالات الوباء يمكن وضع خطة جديدة لخطة "أنا في البيت" أو تمديدها،علما أن المهلة الأخيرة لحظر التجول تدوم حتى الثاني عشر من تموز ، بالتالي ففي حين بدأ عدد المصابين الجدد بالإنحسار اليوم حسب الإحصاءات الرسمية ( عدد الإصابات الإجمالية منذ بدء انتشار الوباء بلغ حوالي 724.945 بينما عدد الموتى 10.779 من بينهم حوالي8.358 يعودون للفريق الطبي منهم 63 طبيبا إضافة لممرضين ودفاع مدني أي بنسبة تُقدرب ال 6% من الإصابات الإجمالية) تزداد حالات الإصابة بكوفيد 19 في كل من جميع الدول سواء الدول الأوروبية كما أميركا وروسيا.
وبينما كانت إيطاليا تواجه مصيرها وحدها ، بقيت الدول الأخرى متفرجة تاركة مواطنيها في الشوارع وكأن الوباء بعيد عنها كإنكلترة ، إسبانيا وفرنسا كما أميركا وغيرها ، وزاد في البلاء مؤخرا بتصويت دول أوروبا الشمالية الغنية لا بل فرنسا أيضا في البداية بعدم مساعدة إيطاليا والدول المتضررة الأوروبية وعليها حل مشاكلها المالية في التصدي للفيروس !
وهنا أود التوقف إذ كانت كثيرة هي رسالات الحب لإيطاليا لكن الإنتقادات الساخرة والإفتراءات ، بخاصة في المدة الأخيرة تترجمت بمقالات تتحدث بعدم الأخذ بالتجربة الفاشلة الإيطالية وعدم الإحتذاء بها ، دون تناول الواقع بعمق، ناهيك عن صور وفيديوهات مُغرضة للأسف في أسوأ مرحلة إنسانية شهدتها البلاد مع ازدياد حصار الإصابات والموت المريع ، الذي تحدثت عنه مطولا في السابق وألمّ تراجيديا بأرقامه الأقاليم الشمالية تحديدا ، ما عكس حالة ذعر على المستوى الوطني بمؤسساته المُختلفة ، تغيرت معها قرارات الحكومة بتطبيقها لحالة الطوارئ وتدرج مضمون اختلافها حتى ما بين فترة قصيرة وأخرى لم تتعد اليومين ، إلى أن تم اتخاذ القرار بالحظر الكلي للتجول وعدم الخروج إلا لأسباب مُلحة يسمح بها نموذج أعدته البلديات، يُصرح فيه عن السبب أو يُمكن للمواطن طبعه شخصيّا من منزله وحمله أثناء تجوله .
وأجدني اليوم أضيف المُستجد وما لم أقله ، يساعدني في ذلك تواصلي مع أصدقاء خارج إيطاليا سألوني بكل محبة "لماذا إيطاليا هذا الكم من الموت ؟ ما السبب؟ " بينما يروق لآخرين وبخاصة ممن يفتقدون نظاما استشفائيا يحميهم ويحمي عائلاتهم ، كما يموت الكثير منهم على أبواب المستشفيات التي يُغريهم جمال هندستها وارتفاع أسعارها القول : ما ذا يحصل في إيطاليا وما هذا المستوى الرديء ؟ ما هذا التقصير ؟ إلخ ..حسب المعلومات التي تصلهم دون أن يقوموا بأدنى عناء بحثا عن الحقائق .
ويذهب البعض الآخر بعيدا بنشر فيديوهات ساخرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، راعني مغالطات الكثير منها ،أذكر على سبيل المثال لا الحصر، تسويق كل من فيديو لزلزال مضى ، إدّعى ناشروه أن صوره تُمثل الإيطاليين المُصابين بالفيروس ، الذين ينتظرون دورهم أمام المستشفيات من بينهم نساء بقمصان النوم الخفيفة رغم موجة البرد، أو تسويق فيديوهات تُمثل الحكومة الحالية التي تجمع التحالف بين الحزب الديموقراطي اليساري مع حركة 5 نجوم الشعبية ، و بأنها وراء حجم الموتى و إنهيار النظام الصحي ، ويمكن الفهم من الأشرطة ذات الغرض السياسي أو لغرض آخر ، ومنها العربية الساخرة أوالمترجمة عن الإيطالية والتي يقف على الأرجح اليمين في خلفيتها خدمة لحملته الانتخابية من خلال سعيه للأسف النيل من الحكم الحالي ،وهو اليمين المسيطر على المناطق التي تعرضت للإصابات الضخمة والمتمثل برابطة الشمال الذي يتبارى المنتمون إليه كل يوم في صب نار حقدهم للإنتقاد ليس إلاّ .
في إيطاليا أشرطة مثيلة عمل ناشروها بغرض أو دونه على محاربة خطة الدولة، وتتضمن عرضا لأشخاص يدعون المواطنين للخروج إلى الشارع ، وأكثر من ذلك تجول فيديوهات من الجنوب تجسد المافيا وتعرض عناصر لها مزودة بمسدسات مهددة الرموز السياسية للحكم أومن يمنعهم من الخروج للشارع ودعوة المواطنين لسرقة البنوك وابلغتهم باستشراء الجوع !فالنقد شيء وترويج شائعات، مقالات وفيديوهات دون التأكد من محتواها شيء آخر.
وردا على السؤال المركزي أي لماذا وصلت إيطاليا إلى هذا الحد ؟ أجد أن لا بأس من التذكير ــ بالطبع دون الدفاع عن وطن تنوء كتفاه بمشاكل عدة في مختلف مؤسساته ــ أن هذا البلد الحائز على عشرين جائزة نوبل في مختلف المجالات الأدبية الفكرية والفنية ، كما العلمية وتحديدا في المجال الطبي والفيزيائي ،كان في مقدمها الجائزة التي نالها ري"ناتو دولبيكو" عام 1975 بينما حاز على مثيلها "سالفادور أيدواردو لوريا" عام 1969 تكريما لجهوده وأبحاثه في مسألة تعدد وتحول الجراثيم ، وبالتالي يصح التأكيد باختصار أن النظام الإستشفائي فيه والذي يُطبق على جميع المقيمين من مواطنين أو مهاجرين ونازحين، يُعد الثالث عالميا ، وهو ليس بالمجاني كما يُعتقد وإنما يصبح كذلك لما يُقابله من التزام المواطن دفع ضرائب ليست بقليلة، بل تكاد أن تكون الأعلى أوروبيا ، لكنه على كل نظام تغطي خدماته ما لم تفعله دول أخرى لمواطنيها، منها أميركا على سبيل المثال التي نسف ترامب إثر مجيئه للحكم كل الخطوات التي قام بها سلفه أوباما بغية تحقيق نظام استشفائي مجاني مثيل .
أمّا وباء كوفيد 19 الذي عصف بالمناطق الشمالية مع بداية هذا العام فلم يكن الأول في إيطاليا ، إنما يُذكر بالأوبئة التي تعرضت لها إيطاليا تاريخيا كما تعرضت أوروبا والعالم كالصين وغيرها ، وما هو سوى مثال للإنسان الذي تعايش وسكن إلى جانب الفيروسات بل جنبا إلى جنب .
وكما اكتسح الطاعون أثينا في القرن الخامس ق.م وعايشها كل من سقراط وأفلاطون ، تعرضت الأمبراطورية الرومانية كذلك حاصدة كل منهما القتلى بأرقام خيالية ، لكن يبقى الوباء الذي اكتسح إيطاليا بدءا من صقلية جنوبا ولغاية مدينة فينيسيا شمالا هو الأبرز لشدة ما كُتب عنه وتحديدا عن المدينة العائمة على الماء ، حين تمكّن منها الطاعون الذي سُمي حينها بالطاعون أو الموت الأسود في العام 1346 ،وكان الوباء الأسوأ على إيطاليا وفينيسيا حاصدا الملايين مع غيرها من الدول .
وفي حين تزودنا المعلومات أن إيطاليا التجارية البحرية والإستكشافية تاريخيا وصلت لغاية القارة الآسيوية عبرمغامرة ماركو بولو ذا الأصل الفينيسي على سبيل المثال ، ألمّ بها الوباء في العام أعلاه من شمال الصين عبر سورية كما تشير المعلومات منتشرا في كل من تركيا ، اليونان ولغاية سويسرا وبالتالي أوروبا كلها ، وهكذا استمر الوباء لغاية العام 1350 .
وتشير الملفات أن فينيسيا فقدت 5/3 من سكانها ،هذا مع استمرار تعرض إيطاليا للأوبئة المختلفة واللاحقة عام 1423 حين حصدت فينيسيا حوالي 40 ألف قتيل يوميا ،وتم إقفال المدينة بما يشبه حظر التجول اليوم ، كما بنيت حينها أول مستشفى تضم 80 غرفة لاستقبال الإصابات في " لازرينو" القريبة منها ، ولم تزل كتابات الأتراك على جدرانها إشارة إلى وجود المستشفى هذا ، ولذا ونظرا لمعاناة الإنسان وحجم ما فتكت الأمراض الوبائية في القرون الوسطى، تعددت أسماء القديسين ضد الأوبئة ، واذا كان الإعتقاد الروحي بسيدة الصحة جعلها شفيعة فينيسيا ، إلاّ أن أبرز القديسين الشفعاء هو "سان روكو" الذي يُطلق اسمه على حوالي 3 آلاف دير ، نظرا لتطوعه في خدمة الإنسانية والمخاطرة بحياته من أجل إنقاذ المصابين ، تم سجنه. وأذكر في هذا الصدد جملته الشهيرة في سجنه قبيل القضاء عليه قائلا: "أنا أسوأ من جاسوس" ردا على سؤال السجّان : "أصحيح أنك عدو لنا؟".
.. وللحديث صلة عن العدو المشتبه به ولماذا إيطاليا؟