د. جواد الهنداوي –الحوارنيوز– خاص
مابين الدول العظمى اليوم (واقصد أميركا و روسيا والصين) تبادل تصريحات غير ودّية، وحرب ساخنة (وليس باردة) بالوكالة ، وتناقض في اولويات الدول العظمى على الصعيد السياسي و الاقتصادي الاستراتيجي . الاولويات وحسب التسلسل الزمني والاهميّة والمتداولة في المشهد السياسي الدولي هي ؛ الملف النووي الايراني وحرب اوكرانيا واسعار النفط والتطبيع مع اسرائيل او مصلحة اسرائيل .
مصلحة اسرائيل والتسريع في وتيرة التطبيع مع المملكة العربية السعّودية ، كذلك الحد من الارتفاع في اسعار النفط وزيادة انتاجه هي اولويات أميركا ،وهي ايضاً المرتكز الاساسي لسياستها الخارجية . تحقيق الاهداف المرّجوة من حرب اوكرانيا ، وصمود روسيا اقتصادياً ونقدياً هي اولويات روسيا . اضعاف أميركا اقتصادياً وسياسياً ، واستغلال الوضع الدولي الراهن للتوسع نقدياً واقتصادياً ، والتأكيد على المرجعية الصينيّة لتايوان هي أولويات الصين .
دول المنطقة الاقليمية ( ايران ،تركيا ) ، والعربية ، وخاصة النفطية ( المملكة العربية السعودية ، والعراق ) و الاخرى التي تواجه الاحتلال والارهاب ، وفوضى الديمقراطية وحريات “التعبير” ( العراق ، سوريا ، لبنان ، اليمن ) ، تراقب وتتابع وتجتهد لاتخاذ مواقف واغتنام فرصة اختلاف الاولويات و المصالح بين الدول العظمى ،من اجل تحقيق مكاسب واهداف ،صَعُبَ نيلها ،قبل مرحلة الاختلاف في الاولويات التي نعيشها اليوم .
على سبيل المثال ، استطاعت المملكة العربية السعودية اليوم ،مالم تستطعْ تحقيقه بالامس، الا وهو تنازل الرئيس بايدن عن عنادهِ في التواصل مع الامير محمد بن سلمان ، و استعداده ( اي الرئيس بايدن ) لزيارة المملكة ولقاء الامير في الرياض في نهاية الشهر الجاري . استطاعت المملكة ادارة ملف علاقاتها مع أميركا ، في زمن الرئيس بايدن ، بنجاح ،مغتنمة ما جرى و يجري من احداث واختلاف في اولويات الدول العظمى ، وخاصة بين روسيا و أميركا .
تواصلت المملكة دبلوماسياً مع ايران ، ومن خلال وسطاء ، ومن خلال تصريحات ايجابية تجاه ايران فأزعجت في ذلك اسرائيل وأقلقتها ، وراحت اسرائيل تلوم بايدن و تنتقده لمواقفه المتزمتّه تجاه المملكة . أستقبلت المملكة ،قبل ثلاثة ايام ،وزير خارجية روسيا ، واستضافته في اجتماع مجلس التعاون الخليجي الذي أنعقد في الرياض ، وستستقبل في نهاية الشهر الجاري الرئيس بايدن . أقدمتْ المملكة ، ومن خلفها اوبك ، بالموافقة على زيادة في كمية انتاج النفط باكثر من ٦٥٠ الف برميل يوميّاً ، وبموافقة اعضاء الاوبك وروسيا ، اي أرضتْ المملكة أميركا والغرب بقرار جماعي ( اوبك ) ، وليس سعودي وبحجّة مقبولة جدا ( الحفاظ على توازن سوق واسعار النفط ) ، ومن دون ان تُغضِب روسيا ! .
تركيا ،هي الأخرى ، تستفيد من الظرف الدولي الراهن ، وتوظَفه لتعزيز و توسيع مساحة احتلالها في شمال شرق سوريا وشمال العراق ، وتستعد لشن حملة عسكرية لمواجهة القوات الكردية ( قسد ) في شمال سوريا ، وتضغط على السويد وتنتقدها بسبب الدعم السياسي الذي تقدّمه السويد الى الجماعات السياسية لحزب العمال الكردستاني ،والذي تصنفّه وتعتبره انقرة منظمة ارهابيّة ، و تسعى لمقايضة موافقتها على انضمام السويد الى حلف الناتو بشرط ايقاف السويد مساعدتها السياسية لحزب العمال الكردستاني .
لم يعُدْ الملف النووي الايراني ، وعلى الاقل لمدة وجيزة ، صاحب الاولوية لا لأميركا و لا لاسرائيل ، لاهتمام أميركا بالحرب الدائرة في اوكرانيا وتداعياتها السياسيّة و الاقتصادية ، ولاهتمام اسرائيل باستثمار سياسة التطبيع على الصعيد الاقتصادي و السياسي ، وممارسة الاغتيالات ( ارهاب دولي ) ، وتجنيد و رعاية عملاء في المنطقة ، بعد انحسار دور المسّيرات الاسرائلية في الاستطلاع والحصول على المعلومات بفعل قوة الردع التي تمتلكها المقاومة في لبنان وسوريا و العراق . وتسعى اسرائيل اساساً لعرقلة التواصل غير المباشر بين أميركا و ايران ، و اجهاض ايّ محاولة لعودة أميركا الى الاتفاق النووي .
ماذا عن العراق ؟
يستمر العراق في مواجهة تحديات السياسة الداخلية ، ولهذه التحديات اسبقيّة واولويّة مقارنة باستحقاقات السياسة الخارجية ،ولهذا الامر اسبابه وتداعياته : ملف الخدمات كالكهرباء والصحة والتعليم هو على قدر اهمية ، او أهّم ، بالمدى المنظور ، من ملف مشكلة المياه مع تركيا ومع ايران ، و في كليهما ارادة دولية ،على مايبدو ، اكثر تأثيراً من الارادة الداخلية ، و بمقدورنا توظيف الظرف السياسي الدولي الراهن ، من اجل احراز تقدّم في هذا او في ذلك الملف .
وملف تشكيل الحكومة و اقرار الموازنة اهّم ،في نظر الاحزاب و السلطات ، من ملف متابعة ومطالبة الجهات والدول التي تورّطت في قتل العراقيين من خلال تسليحها ودعمها للجماعات الارهابية والمسلحة بتعويضات ودّية ؛ جهات ودول اعترفت بقبيح عملها سواء في سوريا او في العراق ، وفي كلا الملفيّن ارادة اقليمية ودولية وبمقدور الدولة توظيف الظرف الدولي الراهن ، والاقدام على حلحلة هذا او ذلك الملف ، وتحقيق ما يصبو اليه الشعب .
ملف فرض السيادة الوطنية على ثروات العراق ، وخاصة قطاع النفط ، وتطبيق الدستور وقرارات المحكمة الاتحادية ، وجعل عائدات العراق النفطية لكل العراقيين وبتوزيع عادل ومنصف ومطابق لأحكام الدستور . والعراق قادر اليوم ،اكثر من ايّ وقت مضى ، على توظيف الظرف الدولي الراهن ،من اجل النجاح في ملف فرض السيادة الوطنية على ثروات العراق و ايراداته ، والا يكون عرضة لابتزاز بعض الدول الكبرى والتي تتحرك لخـدمة مصالح اسرائيل بالدرجة الاولى .
يتعرّض العراق ،اليوم ،اكثر من الامس ، الى هجمات عدائية وبوسائل ناعمة ، من اجل الهائه وإشغاله عن اغتنام الظرف الدولي الراهن ، والمُتميّز بالخلاف بين مصالح الدول الكبرى ، و منعه من تحقيق إنجازات سياسيّة، سواء على الصعيد الداخلي او على الصعيد الخارجي، ومن بين ادوات القوة الناعمة ” الديمقراطية “التي تُمارس” بالشكل المقلوب ” ،ايّ ضّدَ مصالح الشعب وعلى حساب مكانة وهيبة الدولة ، وكذلك ” حرّية التعبير ” ، والتي تُمارس احياناً وبقصد على شكل ” إرادة تغيير ” نحو الاسوأ ، حين تدعو للإشادة بعمل الباطل والامر بالمنكر ونكران المعروف.
*سفير عراقي سابق ورئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات- بروكسل