ألمُشترك بين حياد الراعي وسماحة إمام الحرم المكي
د . جواد الهنداوي *
ليس القصد من خلال هذا الربط اتهام اي مرجعية بأي نوع من أنواع التهم أو إصدار الأحكام على الوقائع وعلى النوايا.
انما القصد محاولة نقاش سياسي لقضية محورية عربية يتداخل فيها السياسي مع الديني من خلال إقحام مرجعيات روحية نفسها بقضايا إشكالية تتجاوز السياسي إلى الوجودي!
السؤال: كيف يمكن قراءة التوقيت المتناسق بين تصريحات البطريرك الماروني اللبناني مار بشارة بطرس الراعي ودعوته للحياد ( الحياد عن الصراع العربي -الإسرائيلي) ودعوة امام الحرم المكي واجراءات التطبيع بين دولة الإمارات ودولة الإحتلال؟
ليست مصلحة بلادهم هي التي جمعتهم في توقيت واحد .فمصلحة لبنان هي في استعادة ارضه ووقف الإعتداءات عليه وعودة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الى ارضهم سندا للقرارات الدولية ذات الصلة، ومصلحة المملكة العربية السعودية في أن تبقى قبلة المسلمين والعرب اجمعين، اما الإمارات العربية، فهي لطالما نادت بوحدة الصف الإسلامي والعربي والتمسك بميثاق جامعة الدول العربية، لا بل أن رئتها الإقتصادية تقوم على دورها ضمن الأسرة الإسلامية والعربية وان مصالحها الحيوية تكمن مع جيرانها الأقربين وليس مع الأبعدين.
إذا أي مصلحة جمعتهم؟
لا شك ان هذه المواقف، خدمت عن قصد أو عن غير قصد مصالح دولة الإحتلال ومصالح الولايات المتحدة الأميركية.
الظاهرة تكشف كيف يتم توظيف الخطاب الديني، ورجال الدين وفقاً لإملاءات الأهداف السياسية، وبعيداً عن المعقول والمقبول، والمُتراكم من حقائق التاريخ و شواهد الواقع. كل طرف ( الراعي في لبنان و امام الحرم المكي في المملكة العربية السعودية و دولة الامارات ) يسلكُ طريقه لخدمة المشروع الأميركي دون التمعن في المصلحة الوطنية والقومية . يوصينا اليوم امام الحرم المكي في حُسن التعامل مع اليهود ويذُكّرنا بتعامل الرسول الأكرم (ص) معهم وببعض الروايات عن هذا التعامل ، وكأنَّ الإمام كان يجهل ما ذكره من روايات، عندما كان، قبل سنتيّن، يدعو لليهود بالفناء و الموت، ويوصفهم بالكفرة والمحتلين إلخ …
يتجاهل الإمام بأنَّ مشكلتنا ليس مع اليهود ولا مع الديانة اليهودية، وإنما مع اسرائيل كقوة محتلة مغتصبة، ارتكبت وترتكب يومياً جرائم ضد الإنسانية ، وتتوسّع على حساب جغرافية الوطن العربي ، وشعارها وهدفها هو ان تكون حدودها من الفرات الى النيل. يتجنب أمام الحرم المكي في خطاباته ذكر اسرائيل، و لكن ، وبتوجيهات، يهيء الرأي العام السعودي والعربي للتقرب الى اسرائيل ،كخطوة تمهيدية علنية نحو التطبيع و العلاقات معها ، من خلال قصة التعامل الحسن مع معتنقي الديانة اليهوديّة .
دور امام الحرم المكي هو إعطاء الشرعية الدينية للتطبيع مع اسرائيل ، ايّ لا مانع شرعيا وفقهيا امام مسلمي العالم للتعامل مع اسرائيل ،باعتبارهم يهود، وعلى العالم الإسلامي ان يسدل الستار على زمن ذكر اسرائيل بالسوء و صيرورة اسرائيل و جرائمها .
ما يقوله امام الحرم المكي خطوة جادة على نيّة المملكة في التطبيع ، تُضاف الى الخطوات الاخرى ،التي اتخذتها المملكة نحو اسرائيل، منها السماح بعبور الطائرات الاسرائيلية المجال الجوي السعودي ، وكذلك موقف المملكة والبحرين في اجتماع الجامعة العربية لوزراء الخارجية العرب والرافض للمشروع الفلسطيني، الذي تقّدمت به السلطة الفلسطينية ؛ مشروع يطالب بإصدار قرار يدين التطبيع الإماراتي مع اسرائيل .
مطالبة البطريرك الراعي في بيروت بالحياد تأتي بتناغم وبتزامن مع مسار التطبيع وآلياته ( خطب امام الحرم المكي و قرار التطبيع الإماراتي والتفاعل الإيجابي لجامعة الدول العربية مع التطبيع ) . اليوم الراعي يدعو الى الحياد ، ويطالب بان يتضمن البيان الحكومي عند تشكيل الوزارة الجديدة فقرة تنّصُ على الحياد ، تمهيدا لخطوة أخرى أشد خطورة!
كلام الراعي هو الحياد، ولكن النيّة هي الحياد تجاه اسرائيل والتسليم بشروطها التي تمليها بواسطة الأميركي على لبنان، وغداً، ربما، الدعوة للتطبيع معها .
ما معنى الحياد و لبنان يواجه عدوانا اسرائيليا امريكيا عسكريا واقتصاديا ونقديا وعقوبات . لا معنى لحياد الراعي غير الاستسلام والسير في قافلة التطبيع و الرضوخ للأملاءات الصهيونية وعلى حساب مصالح لبنان الاستراتيجية الجغرافية والاقتصادية و السياسية .
يُعاني لبنان مِنْ تحديات جّمة، وعلى كافة الصُعدْ : تحديات تتطلب الدعوة ليس الى الحياد، وانّما الى التضامن والوحدة الوطنية ،الى الصبر ، وهو جسرٌ للوحدة الوطنية و آلية من آليات المقاومة ، و الى التوقف والكف عن التدخل الخارجي في شؤون لبنان . يعلمُ البطريرك الراعي أنَّ مشكلة لبنان ليس في حياديتهِ ، وانّما في تدخل سافر و مفضوح وسلبي من الدول في شؤونه .
لم يتحدث الراعي عن التدخل الخارجي ، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في شأن لبنان ، لان مَنْ يتدخل الآن ، وبشكل واضح في لبنان ، هو الفرنسي والأمريكي والتركي .
مطالبات الراعي بحياد لبنان وخطابات امام الحرم المكي تجاه أمانة و أخلاق اليهود قبلَ ما يقارب الفا وخمسمائة عام ، وتجاهل ما تقوم به اسرائيل اليوم من جرائم و رفض مطلق للمبادرة العربية للسلام ، والتي اطلقها المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز عام ٢٠٠٢ ،خلال قمة بيروت ، ما هي الاّ تنفيذ لأدوار ،هدفها دعم و تعزيز التطبيع الإماراتي الاسرائيلي، وخلق اجواء دينية واجتماعية قادرة على انتاج حلقات تطبيع اخرى.
*سفير عراقي سابق ورئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات-بروكسل