سياسةمحليات لبنانية

ولادة وطن حقيقي في الزمن الصعب!

 

الذاكرة مليئة بأحداث وحروب كثيرة: اجتياحات صهيونية متتالية، حروب لبنانية صغيرة وأخرى كبيرة متسارعة ومتهادئة. سقط شهداء لجميع الأحزاب، وقدموا أنفسهم ذودًا عن لبناننا، وكانوا، بحق، شهداء شرف.
في الحروب الداخلية الصغيرة سقطنا جميعًا، تهاوينا بلا أي دعائم تتلقفنا، كان القعر بعيدًا حتى انعدم بصيص الضوء فيه.
كنا كلما أطلقنا رصاصةً على بعضنا بعضًا، استهلكنا أنفسنا، واجتررنا خطاباتنا اجترارًا. فقدنا الخبز والوقود، ولم ننتبه إلى التيار الكهربائي أصلاً، وتقطعت بنا السبل وتكالب علينا الحاقدون، وطمرونا بالأثقال، ثمّ داسونا بأقدامهم.
كنا نركض من زاروبٍ الى آخر، نقاتل هذا الفصيل وذاك، نحرز تقدمًا جغرافيًا بسيطًا هنا أو هناك، فنشعر بالانتصار، لكننا كنا نضيع في مهب الانتهازيين، سارقي النصر… والحلم.
إن من أنقذنا – على الرغم من قساوة التشبيه- هو عدوان سنة 1982، عندما اجتاحت دبابات الكيان الإسرائيلي وطائراته أرضنا وفضاءنا وبحرنا… ولم توفّر حلمنا.
حينها، دخلت آلة الحرب الإسرائيلية بيروتنا، وأخرجت من لبناننا قوى الثورة الفلسطينية التي عانينا معها ومنها حتى الرمق الأخير.
كنا مأزومين، ضائعين بين الثورة واللاثورة، بين التجاوزات والسكوت الممنوع. ولما امتلأت الكأس قيحًا، كان قرار التظاهر في صيدا، رفضًا لتلك الممارسات قبيل الاجتياح.
أنقذنا العدوان، نعم، هو هكذا. لقد خرجت الثورة، وتُركنا لمصيرنا، فكانت المجابهة. هي لحظات الانتصار الحقيقي، عندما تكاتفت بنادقنا جميعًا -قوى الحرب الأهلية- فتوجهت فوهاتها نحو العدو، وأحرزت انتصارات كثيرة تمثلت بجرجرة جحافل المحتل من بيروت حتى الحدود الجنوبية.
بين 1982 و 2000 حكايات نصر موسومة بالعز أبهرت العالمين.وفي خلال الحرب مع العدو، كانت الحروب الصغيرة قد عادت وأشعلت الحارات والقرى والمدن، فسقط شهداء أيضًا، وعاد الآخرون من بوابات كثيرة ليعبثوا بالوطن وأهله وقواه.
ولما استنفد البلد وظيفته في الرسائل التي كانوا يتبادلونها، قرروا، ذات يوم، وقف الحرب فيه، فكان اتفاق الطائف فاستمسك زعماء الحرب الأهلية  بزمام الوطن.وبدأت رحلة التقاسم والتحاصص على مدى ثلاثين عامًا برعاية اقليمية وعربية ودولية .
وجاءت فرصتا 2015 و 2019 فكانتا نافذتي ضوءٍ في بُقَع العتمة الدامسة، ونزل الناس بحورًا الى الساحات تلفظهم، وتؤشر إلى وطنٍ حقيقي يعود منبثقًا من رحم الإنتاج لا الريع، يحمل راية الديمقراطية لا المذهبية، يلوح لساكنيه شفّافًا لا غامضًا، واعدًا باقتصاد وطني حيويّ، بعيدًا من ركود وكسل وخيبة تنام وتصحو على خشبة خلاص واهمة، تبشّر بقيامة مزيّفة، بطلها قرض مشبوه من مؤسّسة دولية مريبة الهوى والانتماء، ووديعةً مالية سياسية من شقيقٍ يُمنّنا فيها كلّ لحظة.
نزلوا يحلمون بوطنٍ فيه دولة تصون أهله، وتحميهم من بطش الوكالات الحصرية وجشعها، وكل أنواع التجارة بما فيها السياسية..
مبدعون! كيف توصّلتم إلى تركيبة تخدرون فيها عقول اللبنانيين؟ وهي التي كانت تنشط همّة، وتنبت فرحًا، وتزهر حبًا ،وتعبّر رقصًا وفنًا… فصار مأملهم هدفين: إمّا البحث عن "فيزا" تقيهم طوفان الفوضى، وإما، وهذا الأغلب الأعم، تراهم يبحثون عن السلعة الأرخص. حديث الناس واحد في أماكن العمل والمقاهي، وعيادات الأطباء، والجامعات والمدارس، و"السرفيسات"… وكلّ المطارح الواقعية والافتراضية، كلّهم أحجموا عن الحراك والثورة والانتفاضة -سمّها ما شئت تلك الدعسة الناقصة- وها هم يتعايشون مع موبقات الواقع القهّار، يقتصر جهدهم على توفير ألف ليرة خائبة من هنا، أو دولار "متفرعن" من هناك…
سجّل ايّها التاريخ: لقد صرنا نستعطي التجّار خبزنا ولقمة عيشنا، ونحن من كانت تنحني لنا سنابل القمح.
بعد كل هذا الخراب الذي صنعته أياديهم، يكابرون في رفض منح الشباب فرصة إنقاذ البلد، ويستولدون حلولهم المسكنة كما لو أنهم ينتظرون شيئًا ما من هناك، معجزةً ما من ربهم، أو أنهم يتوقعون أن يغير الله ما في عقول قادة الغرب ومصالحهم، وأميركا في مقدمهم، أو انتصارًا صينيًا وروسيًا في حقلٍ من حقول السياسة والاقتصاد والأمن.
بالانتظار تأتي اقتراحاتهم لشعوبهم، نعم لشعوبهم، متشابهة ..كلهم تراجعوا، بل نسوا شعاراتهم، وكأن ما قيل ذات انتخابات كان في ذات حلم.
إن طريق النهوض يا سادة تقتضي، ان نستفيد من كل ما اقترحتم، ولكن قبل ذلك عليكم ما يلي:
_ الاعتراف، والاعتراف فضيلة، بفشلكم السياسي أولاً، وهو لا يعني نهايتكم، فهو بداية منح أجسادكم الأوكسيجين النظيف الذي ينعشها ويمدها بعمر أطول.
_ إعطاء من افترشوا الساحات، بحق وصدق وعلم ومعرفة وفكر، فرصة إصلاح ما أفسدتموه، وهم في ذلك واثقون وقادرون.
_ أنتم، لن تخسروا شيئًا، فشعوبكم ستبقى وفيةً لكم، ولن تخذلكم، وربما تتمسّك بكم أكثر حين تدرك أنكم أعطيتموها فرصة لحياة كريمة، وإن ليس على أياديكم مباشرةً.
فالحياة كما يقول أنطون سعادة وقفة عزّ، والعزّ هنا أن نمنح وطننا الحق في الحياة والنهوض بعد النكوص الذي سببتموه منذ الولادة الأولى عام 1948 مرورًا بالولادة الثانية عام 1990 وكل الولادات الصغيرة الأخرى البائسة.
فلتكن، إذًا، ولادة جديدة يقودها معكم هؤلاء المبدعون الذين جاهروا ورفعوا الصوت عاليًا، وهم يدقّون ناقوس الخطر، ويرفعون راية التحذير -تحذيركم- منذ الزلة الأولى التي تمثلت بتحويل الديون من داخلية الى خارجية، وما زالوا يبحون حناجرهم في طرح الحلول الناجحة للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تلتفّ على أعناقنا.
فهل من مجيب؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى