رأي

السُّنّة في لبنان… طائفة مؤسِسَة وضامنة (محمد الجوزو)

 

القنصل محمد إبراهيم الجوزو – الحوارنيوز  

 

لا يختلف إثنان على ان حضور أهل السنّة في لبنان يشكّل جزءاً من حضورهم على ضفاف البحر الأبيض المتوسط ضمن محيطٍ تعدّدي يجمع الديانات السماوية كافة.

لم يكن الحضور السنّي باهتاً يوماً بل على العكس فقد كان حجر الزاوية في كل مرحلة مفصلية من تاريخ لبنان على يد نخبة من أبناء الطائفة الذين طبعوا تلك المراحل بمواقفهم الجريئة المتقدمة وكثيراً ما كانت تكلفهم حياتهم، ورغم ذلك تستمرّ هذه الطائفة في عطائها جيلاً بعد جيل.

لقد أكد أركان الطائفة السنية مرارا وعبر التاريخ تمسّكهم بهويتهم العربية كما المسيحيين، وهذا لم يمنعهم من الإيمان بولادة الوطن اللبناني وفق قواعد المساواة والشراكة والمناصفة، كما عبّر عن ذلك المجلس الوطني الإسلامي الذي انعقد في دارة سليم سلام في العام 1933 أثر مؤتمره الثاني، وعرف لاحقا بمؤتمر الساحل، حيث طالب بالمساواة وبوفد مشترك لمناقشة المعاهدة الفرنسية – اللبنانية.

ولم يكن استقلال لبنان لينجز في العام ١٩٤٣ لولا شكّل الرئيس رياض الصلح جزءا أساسيا منه بحيث دافع عن قضية لبنان في المنتديات العربية، وتحديداً قضية استقلاله ووضعه الخاص في قلب العالم العربي بعد الميثاق الوطني الذي تعاهد فيه المسلمون والمسيحيون، وأرسى صيغة العيش المشترك في لبنان مع أفول نجم الإنتداب الفرنسي وبزوغ فجر الإستقلال، وما لبس ان أدى دورا وطنيا تأسيسيا حتى سقط شهيداً.

أما الرئيس صائب سلام الذي بنى زعامة شعبية واسعة لا سيما في العاصمة بيروت واستمدّها من شخصيته الرصينة ودعواته الثابتة الى تكريس العيش المشترك ووحدة الوطن بالإضافة الى استقامته ونزاهته وحسن تعاطيه مع مختلف الأفرقاء على الساحة، فقد حافظ على الدور المتقدّم والأساسي للسنّة في لبنان وطوّر المؤسسات الوقفية السنية لا سيما في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي لعبت دورا ثقافياً وتربوياً وإجتماعياً هاماً في سياق تكريس وحدة اللبنانيين وتوليد نسيج إجتماعي موحّد تحت سقف المواطنة الخالصة.

وبعد حوالي أربعة عقود من الاستقلال وفي خضمّ الحرب المشؤومة التي أدمت قلوب اللبنانيين إنبرى الرئيس رشيد كرامي الى صياغة مبادرة وفاقية مع الرئيس الراحل كميل شمعون أوشكت أن تضع حدّاً للحرب المؤلمة لكن يد الغدر استهدفته واردته شهيدا قبل ان ينقل لبنان من الجحيم إلى الإستقرار والنهوض من جديد.

الحرب المستعرّة على أرض لبنان ازدادت فظاعةً وشراسة واشتدّت وامتدّت لتحرق بنيرانها أبناء الصف الواحد والدين الواحد وتفككت خلالها أوصال الدولة وتحلّلت، إلى أن أطلّ الرئيس رفيق الحريري بدور محوري خلال المؤتمر التاريخي الذي استضافته مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية وانبثقت عنه وثيقة الوفاق الوطني التي تحوّلت لاحقاً إلى إصلاحات دستورية، لتنطلق معها الجمهورية الثانية التي قاد فيها الرئيس الحريري أكبر وأسرع عملية إعادة إعمار ونهوض بعدما وضعت الحرب في لبنان أوزارها، وكان همّه بناء البشر بالتوازي مع بناء الحجر، فوفّر فرص العلم والإختصاص أمام الشباب والشابات في أكبر جامعات العالم ليبني جيشاً من الكفاءات ليحلّ محلّ جيوشٍ من الذئاب المفترسة التي قطعت أوصال الوطن وتركته موشحاً بالسواد.

والحديث عن الرئيس رفيق الحريري لا يختصر بسطور لكن أهم ما أنجزه هو إعادة لبنان إلى الخريطة الدولية في الحضور والدور المحوري في كل أصقاع الأرض.

لكن اليد المجرمة الآثمة خططت لقتل الحلم عند اللبنانيين وأملهم في مستقبل مشرق فاغتالت رفيق الحريري ورفاقه إلا ان ضحايا ذلك الانفجار المعنويين كانوا في أرجاء العالم قاطبة، لأنه كان عابراً للطوائف والحدود والدول والقارات، قتلوه صحيح: لكنه رحل دون أن يُفارق، ولا زال اسمه عنواناً للخير والسلام والبحبوحة وعنوانا للأمل.

أما في الجمهورية الثالثة فقد تابع الرئيس سعد الحريري مسيرة الشهيد رفيق الحريري إعتباراً من العام 2005 إلى جانب رفاقه لتحقيق «الاستقلال الثالث» وحمل لواء «لبنان أولاً» وبقي وفياً للبنانيين ولمحبي رفيق الحريري أينما وجدوا.

استمر الرئيس سعد الحريري في تحمّل مسؤولية الحكم رغم استشهاد العديد من رفاق مسيرته ضمن تحالف الرابع عشر من آذار، ورغم التأزّم السياسي الحاد الذي وصل الى حد الإطاحة بحكومته لحظة دخوله البيت الأبيض، وبقي حريصاً على الإعتدال لحماية لبنان من إمتداد النار المشتعلة في سوريا الى الداخل اللبناني وهمّه الأكبر حماية السلم الأهلي. ثم عاد الى الحكم محاولاً طرح خطة اصلاحية لكن عقبات سياسية حالت دون تنفيذها فانحنى أمام الشابات والشبان الذين بُحّت حناجرهم في 17 تشرين الأول 2019 وتقدّم باستقالة الحكومة التي كان يرأسها كخطوة أولى لتحقيق التغيير الذين كانوا ينشدونه، وكان المسؤول الوحيد الذي استمع إليهم وفهِمَهُم فيما صمّ المسؤولون الآخرون آذانهم وقرروا كسر إرادة التغيير بالأمن الغليظ.

هذه هي الطائفة السنية التي أصرّت على اعتماد الوسطية والإعتدال نهجا وهي لم تبخل على لبنان بخيرة رجالاتها، لكي تبقى وفيّة لدورها الوطني الجامع، ولكي تستمرّ في نبذ العنف من أنّى أتى.

ومهما قيل في ما أصاب وضع السنة في لبنان من التشظي السياسي فان الطائفة السنّية اللبنانية متمسّكة بإشهار صفات الانفتاح، والوفاء للإعتدال الذي رسّخه الشهيد رفيق الحريري وتمكّن من خلاله أن يدخل قلوب اللبنانيين عامة وأهل السنّة بوجه خاص فكان أول من تمكّن من جمع الطائفة سياسياً بعد ان تعذّر على أي زعيم سنّي آخر أن يتربّع على عرش زعامة جميع السنة في لبنان، وإن نال البعض منهم التقدير خارج منطقته.

قبل عام قرّر الرئيس سعد الحريري تعليق العمل السياسي مفسحاً المجال لزعامة أخرى على قياس الوطن، لكن الانتخابات النيابية لم تظهر قدرة أحد على جمع شمل كامل النواب السنّة، فحالة التشرذم لم تعد خافية على صعيد التمثيل النيابي السنّي كذلك الأمر بالنسبة للتمثيل الوزاري، إلا ان ذلك لم يدفع أهل السنّة الى اليأس أو التراجع، فهم لا زالوا يسعون الى إبقاء دورهم رائدا على الساحة الوطنية كدعاة للعيش المشترك والإعتدال لا بل حماة له، وذلك انطلاقا من قناعة لبنانية شاملة بأن انكفاء السنّة عن الحياة الوطنية هو نهاية لبنان الذي عرفناه، وهذا ما لا يتمناه أحد.

وهذا تماماً ما دأبت عليه دار الفتوى من مبادرات متواصلة لجمع الشمل ورأب الصدع والحفاظ على الهوية العربية للبنان شكلا ومضموناً.

*بالتزامن مع صحيفة اللواء.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى