
د. ميلاد السبعلي* – الحوارنيوز
قرأنا كثيراً من التعليقات من البارحة الى اليوم، حول التفجير الارهابي في كنيسة مار الياس الدويلعة في دمشق، التي ذهب ضحيتها أكثر من 20 شهيداً وعشرات الجرحى. معظم التعليقات من السوريين تقول ان المجرم ليس منا. وتدعو السلطة القائمة للضرب بيد من حديد. آخرون دعوا الى المزيد من التضامن الاجتماعي والحوار والمصالحة الشاملة. آخرون اعتبروا ان ما حصل عملية فردية او من مجموعات متطرفة مدانة. والكثيرون تحدثوا عن مرحلة الامن الهش، التي ما زالت السلطة فيها في طور التشكل والسيطرة، وبالتالي يمكن أن تحصل تجاوزات. وقد حصلت مجازر وتجاوزات كثيرة قبل ذلك في الساحل وحمص وجرمانا وغيرها، وكان الكثيرون يتغاضون عنها والبعض يرددون أنها احداث فردية، او ردات فعل على محاولات فلول النظام العمل على تهديد الامن المجتمعي.
لكنّ القليلين يكترثون لانتشار الفكر التكفيري الاقصائي، حيث يتحدث بعض المشايخ في الجوامع عن أن الشام هي لطائفة معينة ويجب تنظيفها من الأنجاس، (علما أن التكفير لا يقتصر بالضرورة على ابناء الطوائف الاخرى، بل كل من له منهج او مقاربة مختلفة، حتى لو من نفس الطائفة)، وأنه يجب استعادة عصر بني امية، وكل ما يرافق ذلك من تجييش وهتافات ودعوات للقتل والابادة العنصرية، دون أن يحاسبهم أحد، أو يكترث لهم أحد. لا بل أن العقلانيين من الذين انتشوا بسقوط نظام الاسد، كانوا يبررون لهم هذه الممارسات بأن البعث عمل اكثر من ذلك، ولا بأس للناس أن تعبر، معتبرين ما يحصل بأنه “فشّة خلق”.
وعندما تطرح مسألة أن الأمن والجيش لا يمكن أن يترك بيد فصائل تكفيرية متطرفة، لأن أي عنصر يمكن أن يتحول عندها الى قنبلة موقوتة اذا لم يستطع أن يضبط اعصابه عندما يرى امرأة سافرة أو مطعماً يقدم الخمر أو أي مظهر اجتماعي يعتبره، في ثقافته التكفيرية المتطرفة، حراماً. فيمكن عندها أن يستخدم السلطة التي لديه لتنفيذ قناعاته التكفيرية، بما في ذلك القتل والتفجير. وانه اذا تم تدريب عدد من كبار المسؤولين على التأقلم مع متطلبات الدولة المدنية، هذا لا يعني أن ذلك يسري على عشرات آلاف المقاتلين الآتين معهم الى الحياة المدنية من حياة المخيمات وشظف “الجهاد” ويعتبرون معظم مظاهر الحياة المدنية في مجتمع متنوع، هي شر مطلق ونجاسة لا بد من تنظيفها، من أجل الله ونصرته.
وبالتالي، فإن الركون الى الواقع، والتغاضي عن عيوب بنيوية في السلطة، بحجة نشوة التخلص من البعث، او من حكم الاقلية، والشعور بالإطمئنان لمجرد تسلم الاكثرية السلطة، يؤدي مع الوقت، الى نمو طبقة من المتطرفين، الذين يعتبرون أنفسهم أنهم الساموراي، الذين حرروا الشعب، وعلى الشعب ان يقدم لهم الطاعة والاحترام. وهم بنفس الوقت، ينشأون على مقاربة تكفيرية اقصائية لا ينفع معها الحديث عن مجتمع سوري واحد ولا مصالحة شاملة ولا وحدة حياة.
فإن لم يتم ادانة هذا النهج التكفيري، ومكافحته، ومنع استخدام الدين لنشر الكراهية والسلفية والدعوات الى تنظيف الجغرافيا من الديمغرافيا النجسة لتصحيح التاريخ واستعادة أمجاد السلف، وإن لم تبنَ مؤسسات أمنية وعسكرية بعيدة عن تجميع عناصر الفصائل التكفيرية، ومكافأتهم بمناصب عسكرية كجوائز لقتالهم ضد النظام السابق واسقاطه، وإعادة بناء الدولة على الحق والعدالة والنزاهة غير الملوثة أو المنحازة تحت عناوين انتقامية أو انتقالية، فإن كل محاولة لاستعادة التعافي الاقتصادي أو الاجتماعي والسلم الاهلي، ستبقى عرضة للتفجيرات الارهابية التي تحظى على تعاطف الكثيرين، أو في الحد الأدنى، الحديث عنها كأنها شجار بين أولاد في أحياء دمشق.
وعندما حصلت مجازر الساحل، أو جرمانة، بحق الطوائف الاخرى، كان بعض مسيحيي الشام ولبنان، غير آبهين على قاعدة “فخار يكسّر بعضه”، الى أن وصل الموس الى الذقن اليوم. والآتي أعظم.
إن الكثير من ابناء الشعب السوري يشعرون بخطر ترك مستقبل البلاد بيد المجموعات المسلحة المتطرفة، ويعتبرون ترك البلاد مفتوحة للدعوات السلفية والتكفيرية ينبت في مقابلها دعوات طائفية متطرفة من طوائف أخرى، ودعوات الى الأمن الذاتي لكل طائفة، كما حصل في لبنان سابقا وادى الى حرب أهليه وتشققات اجتماعية ما زالت متجذرة حتى الان، ومترجمة على الارض بأحزاب الطوائف. هذا المسار في الشام يدفع الناس الى التماس نشوء احزاب طائفية تحمي الطائفة، وتكون الذراع العسكرية والامنية والسياسية للقيادات الروحية للطائفة. وهذه وصفة ممتازة لتدمير المجتمع من الداخل، خاصة في ظل غياب أو منع أو قمع الاحزاب العلمانية أو المدنية العابرة للطوائف، والتي تستطيع الابقاء على اللحمة في النسيج الاجتماعي السوري، بدل تكتيل الطوائف، سياسيا وامنيا، ولاحقا جغرافيا، في غيتويات ومكاسب ومحاصصات و”حقوق” على غرار النموذج الفاشل في لبنان.
لذلك، ان اردتم أن تكافحوا الارهاب، يجب أن تكافحوا تحول المجتمع الى مجموعات طائفية منغلقة تكفر بعضها بعضا، وتدعوا الى تنظيف المجتمع من العناصر النجسة أو المختلفة، وتمنعوا ثقافة التكفير والتجييش الطائفي من الانتشار بحجة الحرية أو فشة خلق المجموعات التي كانت مكبوتة في السابق… والحرية هي أن يفسح المجال لأصحاب الأفكار المدنية والموحدة للمجتمع أن تعمل بحرية في جميع مناطق البلاد، وبين ابناء جميع الطوائف والاثنيات، لإعادة ترميم النسيج الاجتماعي، وتوحيد نظرة الشعب الى نفسه، وتحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية، بعيدا عن منطق الاكثريات والاقليات، وبعيدا عن منطق التكفير والتخوين والدعوة للتطهير والالغاء. وإلا فإن الأمور سائرة، كما يشتهي الأعداء، الى المزيد من التفتيت والتشرذم والتهجير والانقسامات والتطهير العرقي والمذهبي، والتقسيم… وعندها لن يسلم حكم ولا مجتمع ولا اقتصاد من التفتت والانهيار، برغم محاولات الدعم والتجميل من الخارج، لأنه حتى العرب وغيرهم، ممن يمكن أن يشاركوا في عمليات التعافي الاقتصادي او اعادة الاعمار، لن تسلم استثماراتهم من أن ينبت تكفيري متطرف، ويكفرهم ويعتبر أموالهم واستثماراتهم حلالا على المؤمنين.
*باحث تربوي، رئيس مؤسسة سعادة الثقافية