رأي

الخلافة الإلهية في بعدها السياسي (فرح موسى)

كتب د. فرح موسى

 في جواب لمن يسأل عن قدسية العمل السياسي،وعما إذا كانت السياسة ذات بعد إلهي، نقول:

لقد سبق للإمام الصدر أن أوضح أن السياسة ليست مجرد فن أو علم ينتجه الإنسان ويؤديه وفق رؤية خاصة أو مصلحة خاصة،بل هي ذات بعد إلهي وتستند إلى ثوابت وأصول أسس لها الإسلام من منطلق شمولية الرعاية والتدبير الإلهي لشؤون العباد والبلاد.

فالإمام الصدر يرى للسياسية مرجعيتها العقلية والدينية التي لا تفصلها عن مرجعية النصوص التي ينطلق منها العلماء،سواء في الفقه،أو في السياسة،لاستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية.فالسياسة لها بعدها وسندها في ما انطوت عليه حقيقة الاستخلاف في الأرض،وإلا لماذا،وهنا السؤال الجوهري،قال الملائكة،أتجعل من يفسد في الأرض ويسفك الدماء،؟فجاء الجواب أن الخليفة الذي له شأنية العمل والاستخلاف هو الذي علم الأسماء كلها،ما يؤكد لنا حقيقة أن الخلافة في الأرض هي ذات بعد تدبيري (سياسي)يؤديه الخليفة من موقعه الإلهي لكونه شأنًا من شؤون الخلافة في الأرض.

وعليه،فإن معنى السياسة أن نتعقل حقيقة جعل الخليفة للحكم بين الناس،ويا ليتنا تدبرنا جيدًا معنى قدسية العمل السياسي في ضوء الرؤية القرآنية على قاعدة ما جاء به الإسلام  من أمر في الإصلاح ونهي عن الإفساد،فقال تعالى:”لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..”أو قوله تعالى:”ولا تعثوا في الأرض مفسدين..”.

وإذا كان السؤال عن واقعية هذه الرؤية السياسية المقدسة في حياة الناس العملية،فإننا نحيط علمًا بجدوى هذا البعد السياسي للخلافة مما أسس له أمير المؤمنين علي ع الذي أخرج نظريته السياسية من تأسيسات قرآنية لا لبس فيها.ولو كان أهل السياسة قد تدبروا في عهد الأشتر للإمام لعلموا معنى أن تكون السياسة ذات بعد إلهي مقدس؛ولكنهم اختاروا سياسة الفن والخداع والإدهان ليجعلوا منها أساسًا ومعيارًا للحكم في الناس وبينهم!؟فعهد الأشتر هو أعظم سند سياسي أسس له الإسلام في حياة البشرية،وهو في جوهره عصارة وخلاصة الرؤية القرآنية في الأطروحة السياسية،والإمام عليّ يؤكد في بداية هذا العهد أن أطروحته السياسية لم يسبق لمجتمع أن كان له عهد بها،يقول لمالك الأشتر:”إني وجهتك إلى بلاد،وهو يعني مصر بما كانت تمثله  من مركز جذب حضاري، قد جرت عليها دول من قبل من عدل وجور…”،فجاء عهد الأشتر ليعلم الناس أن  الخلافة الإلهية لم تعط لأحد حق التأسيس في المجال السياسي،بل قدمت النموذج الذي لا يبقي حجة لأحد أن يخادع أو يهادن في توجيه المجتمعات وتدبير أمورها!

إنه عهد اشتمل،كما يقول أهل العلم والبصيرة، على أسس الأخلاق والوظائف الدولية وأصول حقوق الإنسان التي لم تبلغها حضارتنا الراقية حتى اليوم،ونحن إذا شئنا أن نقارنه مع الدستور الحضاري الحديث لحقوق الإنسان وجدناه عهدًا ودستورًا لا يقاس به دستور،هذا فضلًا عن مختصات أخرى اشتمل عليها في القضاء والاقتصاد وغير ذلك ،ما يؤكد لنا أن مرور ألف وأربعماية سنة من الزمان من كتابة هذا الدستور لم تجعل منه نصًا قديمًا أو ناقصًا!؟

فيا عجبي ممن يسأل عن قدسية العمل السياسي وهو لا يدري معنى أن تكون الخلافة الإلهية قد أخرجت الى حيز الوجود دستورًا لا يبقي لأحد من أهل العلم أن يقول إن السياسة هي فن التدبير ورعاية مصالح الناس وفاق معايير يراها هذا الشخص أو ذاك!؟فماذا أنتم قائلون أيها الناس لو علمتم أن الإمام علي هو أول من قدّس العمل السياسي وجعل له بعده الإلهي بعد رسول الله ص؟بل ماذا لو علمتم وتعقلتم معنى تمايز السياسة الإسلامية لدرجة أنه يستحيل على قرون الزمان بكل أهلها أن تأتي بما جاء به علي بن أبي طالب ع في علم السياسة والتدبير!

فكل ما لديكم أيها العلماء هو دساتير أنتجها التسلسل الحضاري لأهل الخبرة والوعي على الأرض،تجمع لديهم وكان وليد تجمع لأفكار ألاف العلماء أنتجوه ورتبوه وقدموه للناس على أنه حلل عقولهم وجواهر نفوسهم في زمن طال بهم!إن ما بين أيدي الناس اليوم من دساتير متعثرة هو نتيجة طبيعية لرقي الفكر وازدهار المدنية.أما ما جاء به علي ع في عهد الأشتر لم يكن وليد أزمنة أو عقول لعلم أهل التاريخ والحضارة أن الإمام ع جاء به من القرآن الكريم الذي خلق الحضارة لا عن سابقة ..

أيها العلماء،يا أهل السياسة كم هو حظكم بائس أنكم لم تعلموا ،أو أنكم علمتم ولم تعملوا على أطروحة مقدسة في السياسة!فهل تعلمون أن عهد الأشتر وعظمة فكر علي ع  هو وليد فكر واحد قد نظمه ورتبه في أقصر زمان،أي لم يكن نتيجة تدريج في التفكير والتدبير كما صنع أهل المحول والجحود ،بل كان أشبه شيء بخلق الساعة،خطه الإمام بيمينه وبعث به الى حيث تنجذب الحضارات وترتقي الأفكار!؟

فهل يبقى لزاعم أن يقول إن السياسة هي فن الواقع وإن القرآن لم يقدم لنا نظرية في الدولة أو في السياسة؟أنى لكم أيها العابثون أن تعوا معنى جعل الخليفة وتعليم العلم،وأنتم لما تخرجوا بعد من مجاهيل الهوى!فطوبى لمن تعقل حقيقة العلم الإلهي وارتقى في مدارج الحياة لتكون له بصيرة النفوذ إلى حقائق الوجود وخصائص الرجال الذين انتدبهم الله ليكونوا ساسة العباد والبلاد والسلام.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى