سياسةصحف

مرّة أخرى… الإعلام الفرنسي لم يرَ فلسطين

 

الحوارنيوز – صحافة

تحت هذا العنوان كتبت ألمى ابي سمرا في الأخبار تقول:

 

 

 

كان طبيعياً أن يكون المشهد كما رأيناه على الشاشات الفرنسية منذ السبت الماضي. وسائل الإعلام المملوكة أو المموّلة بغالبيتها من جهات تخدم مصالح إسرائيل، انكبّت على وصف ما حصل في أحداث 11 أيلول، مركّزة على «المدنيين الأبرياء» في الكيان المحتلّ، في مقابل بضع دقائق خاطفة لغزة التي مارس عليها الهمج عقوبةً جماعيّةً وسوّاها بالأرض. أداء يُبرز عنصرية وتفوّق الرجل الأبيض

باريس | «نحن مصابون بالهلع»… «فقدنا الاتصال بأقاربنا»… «لم نعش لحظات كهذه من قبل»… شهاداتٌ تتردد على شاشات التلفزة والإذاعات الفرنسية منذ يوم السبت السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ليس في وصف ما ذاقه أهل قطاع غزة منذ تاريخه، أو في أيٍّ من الحروب التي شُنت عليهم آنفاً، بل في وصف مُرّ الكأس الذي تجرّعه لمرةٍ المستوطنون الإسرائيليون، طبّاخو السّمّ الذين شاءت إرادة أصحاب الحق أن يكون وبالاً عليهم.

طغت صباح السبت حالة صدمةٍ وارتباك جليّين، لا على موقف وسائل الإعلام المرئي والمسموع الفرنسي من الحدث الذي عكّر صفو عطلة نهاية الأسبوع المشمسة، بقدر ما كان على قدرته على تقدير حجمه ومدى التغطية والتجييش الإعلامي التي يتعين عليه تكريسه له… إلى أن ظهر الموقف الحاسم والصارم للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في سلسلة من التغريدات بلغاتٍ مختلفة، حذت حذوه فيها ثلةٌ من الشخصيات السياسية البارزة، فكانت بمثابة صدى لما كان يدور في أروقة وزارة الخارجية الفرنسية. تُرجم ذلك وضوحاً أكبر في الخطّة التحريرية لوسائل الإعلام المملوكة أو الممولة بغالبيتها من جهاتٍ مواليةٍ حدّ الانبطاح لكل ما يخدم مصالح إسرائيل.

تلت ذلك حالةٌ من الترقب لمآل الأمور، واعتلى بلاتوه استديوات الأخبار والبرامج السياسية من تيسّر من كُتّاب وأكاديميين ومحللين، فلم تنقص بعضهم مهارة الربط بين عبور القوات المصرية لخط بارليف عام 1973 وكسر المقاومين الفلسطينيين لكل الخطوط المادية والمعنوية المُحدثة، المتزامن أيضاً ومجدداً مع يوم الغفران الذي يلحظه أتباع الديانة اليهودية. لم يخل الأمر من شطحات في محاولة لاستشراف الآتي، فبدا أن هناك إجماعاً على حجم تداعيات ما يحصل على المنطقة برمتها، على نحوٍ سيعيد خلط الأوراق ويخلق توازنات جديدة للقوى، فتردّد تشبيه ما يحصل بأحداث يوم الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، الذي ما زال يرخي بثقله على الشرق الأوسط بعد اثنين وعشرين عاماً.

 

وفي حين أن إدانة «الهجمات على الإسرائيليين، وأَسر وقتل مدنييهم» كان أمراً مفروغاً منه لدى السواد الأعظم من الضيوف الذين لن يتمايزوا عن الموقف الرسمي، سواء أكان ذلك بفعل قناعةٍ مطلقة أو جُبنٍ مطلق، فإن الحذر كان جلياً في التعاطي الإعلامي مع الضيوف الفلسطينيين، وخصوصاً الداعمين للقضية الفلسطينية عموماً الذين لم تُفرد لهم حصةٌ متوازنةٌ على أثير المحطات بطبيعة الحال. هكذا، كنتَ ترى الإعلاميين من مذيعين ومقدمي برامج ومراسلين في حالة تأهب متوتّر لقطع الحديث على الضيف متى دعت الحاجة، مع طرح أسئلةٍ موجهة لا تمنح سوى فرصة لإدانة «الهجمات الشعواء لحماس على الكيبوتسات وقاطنيها من المدنيين الأبرياء».

وهذا يقودنا إلى نقطة ثانية، تتعلّق بنزع الفعل المقاوم من سياقه التاريخي، العميق منه والآني، كأنه وليد لحظةٍ أو ردة فعلٍ على حدثٍ بعينه، أو -وهو الأسوأ من ذلك- إظهاره على أنه تفريغٌ لرغبةٍ عبثية بالقتل والتدمير لـ «أبرياء» لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يحصل. افتقرت التقارير للتنويه بكل ما عاناه ويعانيه الشعب الفلسطيني من ويلاتٍ وما ذاقه من حملات تدميرٍ ممنهج للحجر، وتطهيرٍ عرقيٍّ للبشر، لا منذ الانتفاضة الثانية ولا الأولى، ولا منذ نكسة حزيران أو نكبة 1948، بل قبل ذلك بسنوات. وفي حين أُفرد ما لا يتجاوز معدله الدقيقتين من كل 24 ساعة لتصوير الأوضاع الإنسانية المتردية في قطاع غزة بعد القصف الإسرائيلي وتطبيق الحصار القديم الجديد، اقتصرت السردية على حصر مسؤولية الوضع المعيشي للغزاويّين بـ «حماس» وحسب لاستخدامها لهم دروعاً بشرية، كما ذهب أحد الضيوف «المستنيرين» بعيداً في شطحاته التي لا تنم سوى عن «درايةٍ عميقة» بخصوصية قطاع غزة، حدّ الإشارة إلى «الاستئثار الذي لا يُصدق» لـ «حماس» بالحكم في القطاع منذ سنوات دونما شرعيةٍ مستمدة من وصولها بصورة ديمقراطية، كأنّ أهل القطاع كانوا لينعموا بالرفاه ورغد العيش بمداورةٍ ديمقراطية للسلطة في السنوات الماضية، أو لو لم تسطع شمس يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) التي كان وبالاً عليهم هذا العام! أما الدمار في قطاع غزة فكان «مبرراً» كونه محض «أضرار جانبية» لا مفر منها رداً على هجوم «حماس»، ودفاعاً من إسرائيل عن نفسها بوجه «إرهابيين لا يتباينون في أيديولوجياتهم عن طالبان أو داعش أو بوكو حرام».

اعتبر أن إسرائيل تدافع عن نفسها بوجه «إرهابيين لا يتباينون في أيديولوجياتهم عن طالبان أو داعش أو بوكو حرام»

كانت الأصوات التي تعالت على محطات الإذاعة والتلفزة صدى لبعضها وللمواقف الرسمية التي بلغت ذروتها وسقف حدتها في اجتماع الجمعية الوطنية الفرنسية بعد ظهر الثلاثاء. من غير الدقيق توصيفها بمحاولة التضليل الإعلامي، فذلك يقضي بالضرورة أن يكون المُضلِّل مدركاً تماماً، لا لأوجه الحقيقة، فليس للحقيقة من وجوه في حالتنا هذه، بل مدركاً لحدود الأبيض والأسود، وهما جليّان هنا، ومحاولته لإخفاء أحدهما أو حرف الأنظار بعيداً منه. أما في حالة الإعلام الفرنسي المرئي والمسموع، فإن السياسات التحريرية ما هي إلا قناعةٌ متأصلة هي ثمرة عملية غسيل أدمغة تراكمي للقائمين عليها على مدى عقود من قبل لوبيات تملك خيوط اللعبة وتتقن التحكم بها. هل يمكن التعويل على فضول الشعب الفرنسي للبحث بنفسه عن الحقيقة؟ حقيقة أن ما نشهده منذ صباح السبت يمثل إرادة شعب كامل بالحياة واستعادة الأرض والحق بأكثر الطرق مشروعيةً وصوابية، أم إن الخوارزميات التي تحكم محركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي، التي بتنا مدركين أنها تتسم بانتقائيّتها ودورها كمطاوع، يُنزل بأصحاب المنشورات التي لا تخدم سردية ربيبتها إسرائيل عقوباتٍ تتفاوت في شدتها ومدة تطبيقها، فتحول دون نقل الواقع على حقيقته؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى