رأي

لماذا تتبنى إيران دبلوماسيّة الصمتْ في ملف الرئاسة اللبنانية ؟(جواد الهنداوي)

 

    بقلم الدكتور جواد الهنداوي – الحوار نيوز

 

       الصمتْ في العرُف الاجتماعي وفي القانون وفي الدبلوماسية هو فعلْ ، وله آثاره التي يترتب عليها عتاب وحساب ، وربما ضرر .

           تلجأ احياناً الدولة الى دبلوماسيّة الصمت حين تتيقّن بأن التدخل او المبادرة باقتراح او تصريح ، وتبني موقفا سياسيا ازاء حالة معينة او حدث او ملف ، من دون فائدة مرجّوة ، و لا يصّبُ في مصلحتها .

و قد يكون عسيراً على الدولة أنْ تلوذ بالصمت ازاء ملف او حدث ،كرّست من أجله جهوداً وسنين ،كحال صمتْ المملكة الاردنية الهاشمية ازاء ما يجري ويدور حولها مِنْ اتصالات واجتماعات و لقاءات بين اسرائيل و امريكا و المملكة العربية السعودية و السلطة الفلسطينيّة بشأن القضية الفلسطينية . يحضرني هنا، وصف لشاعر العرب الكبير المرحوم الجواهري ، حين يقول : ” وحين تطغى على الحرّان جمرتهُ … فالصمتُ افضل ما يطوى عليه فمُ .”

كذلك لاحظنا صمتاً دبلوماسياً للمغرب ازاء ما حدث و يحدث في النيجر ،حيث لم تتبن المغرب موقفاً سياسيا او تصدر تصريحاً رسمياً ازاء ما جرى في النيجر ،و ازاء التفاعلات الافريقية و الدولية مع الحدث ،لاسيما تهديد فرنسا في التدخل وكذلك موقف المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا (اواكس ) .تصريح المغرب الوحيد جاء على لسان ممثل المغرب الدائم في الاتحاد الافريقي ، والذي قال فيه ” ان المملكة تثق في حكمة شعب النيجر والقوى الحية في النيجر للحفاظ على المكتسبات والحفاظ على دورها الاقليمي … ” .

الصمت الدبلوماسي لا يعني عدم اكتراث واهتمام من قبل الدولة المعنيّة ، و لا يعني ايضاً غياب جهود متابعة و دراسة و تحليل للحدث من قبل الدولة المعنيّة .الصمت الدبلوماسي هو حالة ترقّب و انتظار لما تؤول اليه التفاعلات الدولية بشأن الحدث ،من اجل تقييم ضرورة اتخاذ او عدم اتخاذ موقف ، والاثار المترتبة على القرار .

نعود الى صمت ايران ازاء ملف الرئاسة في لبنان ، والذي تتقاذفه الدول ،من وساطة لأخرى ،من دون نتائج ملموسة ، وهو الآن تحت رعاية الوساطة القطرية ،بعد فشل الوساطة الفرنسية .لم نقرأ خبراً ولم نسمع تصريحا عن دور او تدخل او وساطة ايرانية ، ولمْ نشهد تظاهرات في لبنان تطالب بالاسراع في تسميّة رئيساً للجمهورية ، او تستغرب عجز الديمقراطية في لبنان عن حسم ملف الرئاسة ،وتستهجن ، مثلاً ، تداول الوساطات الدولية من اجل تسمية رئيس للشعب اللبناني . في لبنان ،نحن امام مشهد ،نواجه فيه ” لعنة الديمقراطية ” على الشعب وعلى سيادة الدولة .  الملف الرئاسي في لبنان نقَلَ حال الديمقراطية مِنْ ديمقراطية غير مباشرة الى ديمقراطية من خارج الحدود .

كل الوساطات التي تعاقبت على ملف الرئاسة في لبنان هي برعاية امريكية ،وهذا قدْ يُعلّل هدوء الشارع اللبناني او رواق مزاجه ،او تحت تأثير حُقنة يأس او صبر او انتظار .

لستُ متأكداً من بقاء الشارع اللبناني على صبره و هدوئه ،فيما اذا بادرت ايران بجهود وساطة مباشرة في الملف الرئاسي . هذا الشك هو احد اسباب صمت ايران وعزوفها عن التدخل في الملف الرئاسي ،لا من قريب ولا من بعيد .

     تدرك ايران بأنَّ حلفاءها او اصدقاءها في لبنان ،وهم الثنائي المعروف حزب الله وحركة امل ، وغيرهم ،يرحبون ويتفاعلون مع كل الوساطات العربية و الاوروبية ،والتي هي برعاية امريكية ، ولكن غير حلفائها واصدقائها ،من القوى والحركات السياسية في لبنان ، سيرفضون ايّ وساطة ايرانية . هذه الحقيقة تدل على المرونة التي يبديها الثنائي في التعامل مع الوساطات الفرنسية والعربية  ،والتي هي برعاية امريكا ،التي تفرض الحصار ومنع ضخْ الدولار ،مقارنة بالقوى والحركات السياسية اللبنانية الاخرى ،التي في مقاطعة مع ايّ وساطة مصدرها ايران .

لا ترغب ايران ان تدخل في معترك ملف حارَ الفرقاء السياسيون والعرب والدوليون بأمره ، ولا تريد ان تكون شمّاعة يحمّلها الاخرون فشل مساعيهم ، كما أنَّ ايران واثقة جداً بموقف حلفائها واصدقائها و قوتهم .

تريد ايران ،في تبنيها الصمت وعدم التدخل في الملف الرئاسي ، ان تبرهن للعالم بأنها ليست معنيّة بالشؤون الداخلية والسياسيّة في لبنان ، باعتبارها شؤونا داخليّة ،وإنَّ ما يهمّها في لبنان هو دعم مقاومته للاحتلال الاسرائيلي .

ما بين ايران و امريكا ،في الوقت الحاضر ، استراحة مُحارب ،او فراغ وقت ، ” كفراغ ايام الجنود العائدين من القتال ” على حّدْ قول الشاعر المرحوم بدر شاكر السّياب ” . بينهما ،على ما يبدو تفاهم غير مباشر وضمني ، وكُلِلَّ بنتائج ،من بينها الافراج عن سجناء امريكيين مقابل الافراج عن اموال ايرانية مُحتجزة . كلاهما ( امريكا و ايران ) يتبنيان في الوقت الحاضر مبدأ ” دعه يعمل دعه يمّر ” ، ( مبدأ اقتصادي تبناه رينيه دي فويير ، وزير ماليه فرنسي عام ١٧٥١، و آدم سميث وجون كينز ، من بعد ). اي غياب المشاكسة بينهما ولو ظاهرياً ،  ( اقصد بين ايران و امريكا ) ، ولكن عيونهما في مراقبة وحذر على الطريق .

يبدو أنَّ ايران مطمئنة على مصير ومآل  التدخلات الامريكية في المنطقة ،او تلك التي تدور برعاية امريكية ،وأنها ستصّبُ ، و إنْ طالَ امدها وعُسرها ،في صالح  اصحاب الحق .

  رغم صمت ايران الدبلوماسي ، و وضوح عدم تدخلها في ملف لبنان الرئاسي ،لكن من غير المُستبعدْ أن تستحضر الادارة الامريكية مناسبة او فرصة لتقول ” إنَّ تدخل ايران وراء فشل مساعي انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان ” .

اعتقدُ بحظوظ نجاح الوساطة القطرية لاسباب : منها العلاقة الممتازة بين ايران وقطر ،وعدم تردّد قطر باستشارة ايران او طلب دعمها ،كذلك قدرة قطر مقارنة بفرنسا ، على تعزيز جهودها في الوساطة بإيداعات نقدية لتعزيز حال العملة اللبنانية . إنْ كان لايران مقدرة على تقديم خدمة في ملف الرئاسة في لبنان ،فانها ستبادر في ذلك ، خلال الوساطة القطرية وليس غيرها من الوساطات . الوساطة القطرية هي ،قبل كل شيء ، وساطة عربية ،و تحظى بمباركة اقليمية (ايران و تركيا ) ،مقارنة بالوساطة الفرنسيّة ، ومن الممُكن جداً ان تكون قطر قد تداولت مع ايران قبل بدء جهودها في الوساطة ،و من الممكن جداً ايضاً كان رّدَ ايران كالاتي: ” لا نتردد في دعم جهودكم ولكن لا نريد ان نتدخل في هذا الملف ، وهذا الامر يخصُّ حزب الله و حركة أمل ” .

* رئيس المركز العربي الاوروبي للسياسات وتعزيز القدرات /بروكسل /في ٢٠٢٣/١٠/٢ .

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى