سياسةمحليات لبنانية

صناعة وفرادة القداسة في لبنان

في بلادي كثر القدّيسون والزعماء والصالحون وتقزّم الوطن. تزاحمت رايات العنفوان والقوة وكثرت التحدّيات وتسلسل الاحتلال المتعدّد  حلقة بحلقة حتى أفلست الدولة.

تعلّم معظم اللبنانيين واتقنوا عدّة لغات، وطافوا دول العالم وتبوأوا اعلى المراكز و تراكمت في شوارعهم النفايات وتوترت خطوط التوتر العالي ،فلا كهرباء انتجت ولا أضاءت الوعود ساحات المدن والقرى.

لماذا وكيف ينتج هذا الشعب، هذا الكمّ من القدّيسين والصالحين والزعماء والقادة؟

في بلادي،لا يتحوّل المرء لقدّيس الا بعد موته او بعد إختفائه القسرّي ،أو بعد قتله إغتيالا، او بعد نفي او بعد سجنً ،وليس بعد تأليفه لكتاب أدبي خارق او لإختراعه للإنسانية ما يخفف عنها آلامها ، او لإكتشاف طال سؤال الأمم عنه، أو لعمل إجتماعيّ طاف عن ضفافه الخير، أو  لعمل بطوليّ نادر أنقذ فيه خاصة قومه او أنقذ فيه كلّ الناس من حوله.

لا قدّيس ولا زعيم ولا قائد ولا رجل صالحا إلّا ومعه شعور عام لشريحة ما من الناس بذنب نحوه يتبعه، بندم عارم يلحقه، بأسف وتحسّر وكرب وحصر خانق بإتجاهه ،ولاسباب كثيرة ومن اهمّها وإخطرها تمنٍّ غير واعٍ بالموت والكراهية من هذه الشريحة  للمقتول او للمختفي ،وكأنّها شاركت ومن حيث لا تدري بالجريمة. لذلك يأتي تعظيمها للراحل تعظيماً مبالغاً فيه على قدر الشعور بالخيانة او بالإثم أو بالفأل السيء أو بالمشاركة غير المباشرة في الجريمة لعلّها تطهّر  نواياها السيئة وتنظف سجل حقدها تجاه الراحل…
نكران السيّد المسيح ثلاث مرات قبل صياح الديك ،ألم يولّد شعورا بالإثم والذنب جعلا من السيد بطرس ينشط مسيحيا بإفراط؟.
اليس تخاذل شريحة من المسلمين عن نصرة الامام الحسين رغم وعدهم له ، جعلهم يفرطون في حبّه بعد استشهاده لشعورهم بالذنب والتخاذل فكان التوّابون مثلا؟
كان التطوّر الاجتماعي-السياسي-النفسي الطبيعي لطائفة الموحدّين الدروز يتطوّر في إتجاه التحرّر من الاقطاعية السياسية العائلية، الى أن جاء إغتيال المعلّم كمال جنبلاط ما حوّل سيرورة التطوّر في إتجاه تكريس مفهوم آخر اي عائلة اقطاعية طائفية سياسية مناضلة بالروح وبالدم من أجل الجماهير.
كان التطوّر الطبيعي لطائفة المسلمين الشيعة الإثني عشرية قد نجح في فكفكة الاقطاع السياسي الشيعي( الاسعد -عسيران-الزين-حماده ) في اتجاه أفكار أممية وقومية واشتراكية، الى ان جاء إختفاء الإمام موسى الصدر ما حوّر سيرورة التطوّر تلك في اتجاه إقطاع طائفي مناضل وتحرّري بديل .
كان التطوّر الطبيعي لطائفة اهل السنّة والجماعة قد نجح في القفز عن العائلات الاقطاعية السنية (سلام-كرامي-الصلح-المرعبي.. الخ) في اتجاه قومي وبعثي وناصري و تحرّري واسلامي وسطي منفتح الى ان جاء إغتيال الرئيس رفيق الحريري، ليحوّر هذا التطوّر الاجتماعي السياسي النفسي في اتجاه تكريس إقطاع عائلي طائفي بذل الدم والغالي من اجل هيبة أهل السنة والجماعة.
هكذا اصبح السيّد كمال جنبلاط والسيد موسى الصدر  والسيد رفيق الحريري قديسين وزعماء وقادة صالحين وسط ناسهم ،ولم يكونوا أبدا نتيجة تطوّر طبيعي لسيرورة اجتماعية-سياسية-نفسية.
ما ينطبق على هؤلاء، ينطبق ايضا على نفي الجنرال ميشال عون وسجن السيّد سمير جعجع .
ما كان احد منهم بقديس ،إنّما مأساة إغتيالهم واختفائهم ونفيهم وسجنهم جعلت منهم قديسين وسط أناسهم ، قديسين على تضاد في مسعاهم وعلى تناقض في نواياهم وعلى عداء في أفكارهم، فمن ذاك الذي قتلَ وأخفى ورحَّلَ وسجنَ؟
من ذاك الذي صنع قديسين وقادة عكس التطوّر الطبيعي لسيرورة الاجتماع-سياسي-نفسي لأناسهم وفق تربية اناسهم الحديثة، ووفق تطوّر عقل ناسهم من عقل ميكانيكي اوتوماتيكي الى عقل الكتروني؟!

كأنّ في الاكثار من القديسين نيات دفينة لتمزيق النسيج الوطني، كلما ناضل فدائيون مجهولون من أجل حبك هذا النسيج جاء من يقتل وينفي ويسجن ويخفي ، لينتج قديسا جديدا لخلط الاوراق ولمنع النسيج الوطني ان يمتدّ وفق تطوّر العلوم   ووفق حاجات الوطن والطبيعة من أجل التقدم والازدهار.
.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى