العالم العربيسياسة

بإنتظار نهاية العصر الجرثومي: في الصراع بين الشرق والغرب

 

الدكتور نسيم الخوري – الحوارنيوز خاص

تبدو الإنشطارات متداخلة ومتناقضة في الأفكار والمواقف حتّى بعدما خيّمت جرثومة على العالم كلّه لا لتوحّده بالخوف والموت بقدر ما تجعله أكثر ميلا إلى الحجر والإنكماش الفردي حتّى ضمور العولمة الفالتة لتتعزّز بعدها قطعاً الحدود والقوميات الضيقة.
هي ليست عودة نحو ما يميّز العرب أساساً، كما نقرأ اليوم من ردود فعل سريعة مختومة بالموت الفظيع في الكرة. العرب بطراوتهم خبروا الطور الأوّل من حداثة المجتمعات، أعني طور اليقظة التحرّرية التي برزت في الرغبة القوميّة بحثاً عن الحريّة والإستقلالية وقد تجلّت هذه المناخات في الأنشطة الحزبية المتجذرة بالأديان والجمعيات والإنفتاح الخجول على العالم.
ينقع العرب بلادهم في الطور الثاني ويتأرجحون منذ قرون بين القديم والحديث مثل غيرهم من الشعوب، بين الرغبة في التطور واللحاق بمظاهرالعصرالشائعة والجاذبة، لكنّ معضلة مستعصية في ثوابت الصراع بين الشرق والغرب تتشبّث بهم مع إستحالة تحديد مواقع هذين الشرق والغرب الواقعين اليوم في إعادة تعقيدات التحديد المنكمش حكماً نحو حدود جديدة: أميركا أوّلاً وأوروبا أوّلاً …الخ.
لطالما قُدّم الفكر الماضي شرقاً والمستقبل غرباً لتتعمّق الصراعات في المجتمعات التائقة للتغيير وقيمه ووظائفه، مع أنّه من الوهم أوالخطأ الكبير إمكانية الإستمرار في التصوّر أو التفكير بأنّ التغيير غربيّ غريب وبعيد ومصدره أوروبا وبريطانيا وأميركا وروسيا واليابان والصين وبأنّنا نستهلك العالم بعيدين عن التغيير بالمفهوم الفلسفي والفكري والقيمي.
جاء الفكر النقدي المسيطر على أوروبا والغرب، حصيلة تكلفة بشريّة وإجتماعية ضخمة في الماضي وصولاً إلى القمّة حيث الحروب الكونية والطاعون والكورونا اليوم. ومع أنّ الإنسان دون قيمة الذبابة في الكوارث، لكنّه فكر يطرح على الدوام قيمة العقل المطلقة ليشغل الإنسان به أساس التغيير والكشف الدائمين، لكن لا يفترض نسيان صدمات الحضارة الآلية والإلكترونية القاسية والحافلة بالتحدّيات والصراعات الضخمة بين بلدان العالم التي أُسقطت فيها المفاهيم والتسميات الموروثة التي قسّمت العالم إلى شرق وغرب وشمال وجنوب وعوالم أولى وثانية أو عالم ثالث لتجعله واحداً.
لو تقفّينا المواقف الفكرية والمنشورات والدراسات الهائلة العربيّة حول المتغيّر منذ بدايات عصر النهضة، لوجدنا التيّارات والمناهج الفكرية عينها تتكرّر بالتزامن مع نهضة المجتمعات العربيّة على الصعد الشكلية والهندسية، وتبيّن قدرات هائلة ومغرية في إقتناء خلاصات التجارب والمقتنيات البشرية وتسييرها لمصالحها من دون البحث عن قابلية إستيعاب مضامينها وتجاربها وقناعاتها ومثلها الإنسانية.
يمكنني إختصار هذه التوجّهات بثلاث:
1- الفكر التراثي : هناك تيّارات عقائدية متعدّدة تقوى في تجديد الرفض للغرب بصفته مصدر الفسق والإلحاد والإستعمار وإخضاع الشعوب وموئل محاربة العقائد الأخرى في الأرض.  ينظر هذا اللون إلى الحاضر والمستقبل بمنظار الماضي من دون اعتبار للظروف والسياقات والتجارب التي رافقت الزمان والمكان والإنسان بتناقضاتها ومتغيّراتها. هكذا تبدو جينات أصحاب هذا التيّار متملّكة بالعداء للآخر وهم الأشدّ استعمالاً له، ويروّجون للقديم وبعثه بديلاً يشفي البشرية من بؤسها.
وهنا تبرز مفارقات سيقفز التأسيس الفكري إليها بطرح السؤآل القديم حول موقع هذا الغرب في غابر العصور كما في عصر تكنولوجيا المعلومات وداتا الإتّصالات المتحوّلة بأجيالها وحللها ومقدراتها التقنيّة بما سبق الزمان بأشواط.
لا معنى للكلام عن الغرب إلاَ بصفته وجهة جغرافية في الألفية الثالثة التي تفرز الأرض كفناً للحضارة بمعانيها التقليدية الموروثة لصالح شعوبٍ متواصلة تتخالط ثقافياً وخصوصاً في إحترام هائل سرّي ومعلن فيما بين الدول العظمى التي تنظر إلى الأرض سوقاً رائجاً للتحديث والمخترعات وتقاسم الخيرات والمصالح. هناك تقدّم ملحوظ لمدى الحضور الغربي والشرقي في ظواهر كانت تستخدم التعصّب الديني لمصالحها الكبرى التي تفريغ القيم الأبدية من مضامينها فتمارس الإرهاب فكرةً جرثوميّة تنقل بالهواء هموم الإسلاموفوبيا للأجيال المقبلة ولأغراضٍ لا علاقة لها بالقيم الإنسانية بقدر ما له علاقة ببذر أفكار المناهضة للآخر وتجميد الحاضر والمستقبل بصفته مصدر الكلأ والبترول للقارات الجائعة والخائفة على مستقبلها الصناعي والتقني. وتصبح المسلّمة/المعضلة كامنة في تفوّق دين ما على الأديان والأفكار الأخرى، وأنّنا بتطبيقنا الحرفي لتعاليمه ونشره، نستطيع تجنّب الإنحرافات والأزمات التي تعاني منها الشعوب الأخرى، وبناء حضارة نموذجية من أجل البشريّة جمعاء حتّى إنّ أية محاولةٍ لمناقشاتٍ خاصّةٍ جرئية مع الغرب مدانة سلفاً قبل أيّ إمتحان.
2- هناك تيّار معاكس يسلّم بأنّ العصور خلعت معاطف الماضي العاجز حيال أسئلة الحاضر. غالباً ما يدعم هذا التيار حججه وثقافاته بمقولات الترويج المبالغ فيه لقيم العقل والإنسان والقيم الأخرى الجديدة، ويعتبر أنّ اقتناء إفرازات العصور وابتكاراتها لا تهدّد العقائد الثابتة بل تفتح الآفاق على المستقبل بما يحوّل الماضي تدريجياً مساحةً أخلاقية لمستقبل البشرية تفقد وهججها بالإنتشار.
3- مع أنّني من القائلين بأنّ الفكر التوفيقي هو أسوأ أنواع الفكر الذي يخلط الأمور بما يشوّه الطرفين، هناك توجهات توفيقية ستجمع مجدّداً بين الوجهتين، وهي قد تلطّف، من حدّة الصراعات بين المناهج والأفكار والنزاعات المتناقضة بما يدخلها في جدلية منتظرة تفرغ التاريخ من مقتضيات  الحيوية في التوسع والتغيير.
ما علينا سوى إنتظار نهاية العصر الجرثومي.


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى