سياسةمحليات لبنانية

لبنان وشبح (كلن) ولعبة (مش أنا)

 

«كلن يعني كلن» أخطر هتاف يمكن أن يزلزل أركان الدولة في لبنان، فالمعادلة كانت (كلن) باستثناء نحن، و(نحن) في السياق اللبناني تعني الطائفة، ولأجل تأمين الطائفة وسلامتها وصيانة مصالحها وحصتها في المغانم والمكتسبات، يجب أن يحضر وكيل الطائفة المتمرس الذي يستطيع أن يحافظ على وحدة وتجانس الطائفة من الداخل، وأن يصارع الطوائف الأخرى، ليكن بطريركاً أو شيخاً أو زعيماً شعبياً أو إقطاعياً قديماً، ليكن أي شيء، المهم أن تكون مخالبه متأهبة بصورة دائمة.

ما الذي تغير في لبنان؟ كيف انقلبت الطوائف على نفسها، كيف تخلت عن زعاماتها التاريخية، وهل هذه نشوة لن تستمر، ألن تنكسر عفوية الثوار أمام تمرس الزعماء؟ وما الذي يمكن أن نقرأه في دفاتر الخصوصية اللبنانية وما الذي يمتد ليتداخل مع ظواهر أخرى في المنطقة؟

ليس بعيداً ما يحدث من انقلاب على المحاصصة الطائفية في العراق عما يحدث في لبنان، وهي مشكلة تتمدد عميقاً في صلب النظام الطائفي نفسه، فالزعامة الطائفية تتحول إلى دولة موازية، ويتحول الزعماء الطائفيون إلى طغاة صغار، وهم إذ يحصلون على حصة تتناسب مع تأثير الطائفة، فإنهم يقومون من دورهم الوسيط باستغلال جزء كبير من هذه الحصة لمصلحتهم، ويكتشف المواطن الذي يحتمي بالطائفة أن الحصة الطبيعية التي كانت تقدمها الدولة تتآكل مع الوقت، لأن وكيله أو زعيمه يستحوذ على نسبته الخاصة.

في البداية، وفي لعبة القوة، يمكن لطائفة ما أن تتغول على الطوائف الأخرى، فيشعر أبناؤها بمزايا إضافية، إلا أن ذلك يدفع للصدام الذي مهما تأجل يبقى وارداً، والصدام في حالتي لبنان والعراق يجري بأن تتحول الطائفة إلى وكيل لقوى خارجية، فللمحافظة على وضعية الاستقواء يجب تعزيز التفوق، ولمحاولة كسرها، يجب إحداث خلخلة في موازين القوى الديموغرافية والاقتصادية، ويحدث ذلك عندما تتدخل دول أجنبية في المعادلة، ولذلك تحول العراق ولبنان إلى ساحات تتصارع فيها القوى الإقليمية والعالمية. ذلك ليس كافياً لتحريك الشارع، فالوكالات الداخلية والخارجية يمكن أن تستمر كجزء من اللعبة، صحيح أنها تتوسع لتشمل مخاطر كثيرة أخرى، وتضعف الدولة المركزية نفسها، إلا أنها معادلة قابلة للاستمرار ما بقيت الحصص التي تصل إلى أبناء الطوائف معقولة، والجديد في الحالة اللبنانية هو أن الوضع الاقتصادي السيئ يدفع المواطنين الذين يتذكرون في هذه الحالة مواطنتهم إلى محاولة التخلص من الوكلاء.

في حمى (كلن يعني كلن) يجد زعماء الطوائف أنفسهم في موقف صعب، إذ يحاول كل منهم أن يقول ضمنياً وعلنياً (إلا أنا)، ولذلك يتسابق بعضهم إلى الاندماج مع الفعل الاحتجاجي، ويشاهد العالم مثلاً زعيماً طائفياً معتقاً وأمير حرب سابقا مثل سمير جعجع يحجز مكاناً بين المتظاهرين، ويهرع إلى سحب وزرائه من الحكومة، التي أصبحت في حكم المنتهية، بينما يبقى حزب الله مصراً على الغموض في موقفه، يحذر ويناور ويتهيب ويهدد، ولكنه لا يتحرك عملياً، فيبدو أن الشأن السوري يكتسب أولوية استراتيجية على الداخل اللبناني في هذه المرحلة، والحزب لا يحبذ أن يجد أرضاً ساخنة تحت أقدامه، بينما تتحرك يداه في الأزمة السورية ضمن منظومة أخرى.

بقية زعماء الطوائف يدركون أن التاريخ سيتجاوزهم، لمصلحة زعماء آخرين داخل الطائفة غالباً، فلا أحد يتصور، على الرغم من الصوت المرتفع للمتظاهرين أن يتلاشى نظام الطوائف، فما زالت تتوفر الرافعات الاجتماعية والاقتصادية لإبقائه، وهذه الجولة لن تكون حاسمة في مواجهة الطائفية في لبنان. توجد جولات أخرى من مواجهة اللبنانيين مع الطائفية، هذه الجولة فضحت بؤس التدبيرات الطائفية، والفساد متعدد الطبقات والمتمدد في دهاليز كل طائفة من ناحية، وفي علاقة كل طائفة مع الدولة من ناحية أخرى، واليوم تقدم الطوائف قيادات شابة جديدة غير مقتنعة بالحل الطائفي، وواجبها الأول هو مواجهة الوكلاء المكرسين والمحصنين في الواقع السياسي القائم، وإزاحة الغمامة الطائفية عن عيون اللبنانيين، ولاحقاً التواصل على أرضية المواطنة، وهذه عملية سياسية طويلة، تحمل داخلها أجنة الثورة المضادة، ولكن البداية مبشرة وتدعو للتفاؤل.

الظرف التاريخي يخدم لبنان، فالطوائف التي يمكنها أن تتوثب لإعادة ترسيم المحاصصة الطائفية مثل الشيعة والسنة، لا يمكنها التحرك في الظرف الراهن لاعتبارات اقليمية كثيرة، ولتجنب تصعيد كبير يمكن أن يصل إلى حرب أهلية، ويضاف إلى ذلك مصلحة زعامات هذه الطوائف في التوازن القائم، لأن أي خروج عنه يمكن أن يجعلها تخسر مواقعها الثابتة لمصلحة زعامات جديدة، تستطيع أن تصوغ محاصصة جديدة، أو تضطلع بمسؤوليات أكبر في توازن لبنان، أو تكون وكيلة في لبنان جديد يحرص على المواطنة قبل الطائفة. لا يمكن استبعاد المخاطر الكبيرة المحدقة بلبنان، إلا أن ظروف الحرب الأهلية أيضاً غير مهيأة، لأن الثورة لا تسيطر فقط على الميادين ولكنها تستحوذ على السبق في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تستطيع أن تشكل جبهة صد حصينة، وأحياناً منصة مبادرة، في مواجهة الخطاب الرسمي الذي تآكل محتواه واهترأت أدواته، ولبنان أيضاً لم يمتلك خطاباً رسمياً بالمعنى المتعارف عليه، والتمترس الطائفي يضرب في بنية الإعلام اللبناني الرسمي والخاص. للثوار حروبهم المقبلة داخل طوائفهم، فرصة لتقييم مكتسبات هذه المرحلة مهما كانت نتائجها، ولديهم فرصة الحذر من الثورة المضادة، التي تبدأ بعد إقرار حزمة الاسترضاءات من القوى السياسية، ويجب أن يبقى الشعار الحاضر والدرس المستفاد (كلن يعني كلن) ولو فعلت ذلك الثورات العربية السابقة لربما تجنبت التراجع والانكفاء. والمشكلة فيمن يحاولون الإفلات من (كلن)، ويمارسون الحيل المضحكة المبكية التي تذكر بمشاركة القذافي في واحدة من المظاهرات في بداية الاحتجاجات في ليبيا.

 

*عن القدس العربي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى