سياسةمحليات لبنانية

رؤية رائد شرف الدين للنهوض بلبنان: وثيقة للنقاش

 

 

الحوارنيوز – خاص

قدم النائب الأول السابق لحاكم مصرف لبنان الدكتور رائد شرف الدين رؤيته للنهوض بلبنان من خلال ورقة، هي أقرب الى وثيقة تأسيسية لنقاش هادئ بين مختلف المكونات اللبنانية ،والهدف منها ليس انقاذ لبنان فحسب، بل ووضعه على سكة النمو والتنمية.
قدمت الورقة في ندوة أقيمت في دير مارالياس بدعوة من الحركة الثقافية – انطلياس في 18 الشهر الجاري وسط حضور كبير من المهتمين ،وألقى الورقة مدير الندوة الدكتور الياس كساب.
استهل شرف الدين رؤيته بمقدمة تاريخية أضاءت على الواقع التاريخي لنشأة لبنان والمراحل التي مر بها، وصولا الى التحديات الراهنة لاسيما منها المالي والإقتصادي معززا كلامه بالأرقام.
واستعرض شرف الدين البرامج والخطط الاقتصادية والتداعيات المتصلة بها، راسما أبوابا محددة للدخول الى مرحلة التجديد محاولا الإجابة على سؤال رئيسي راهن: من أبن نبدأ؟
"الحوارنيوز" مساهمة منها في الحوار الوطني تنشر الورقة – الوثيقة كما ألقيت، مع ترحيبها لأي من المساهمات الإضافية التي تغني الحوار وتسهم بوضع إطار علمي للخروج من ما نعيشه من دوران في حلقة مفرغة وطنيا واقتصاديا.
النص الكامل:
من أين نبدأ بناء لبنان الجديد؟ وأعتقد أن التساؤل "إلى أين" لم يعُدْ مجديًا لأن اللبنانيين، بأكثريتهم الساحقة، متفقون على أنهم يريدون الذهاب إلى لبنان حكم القانون والعدالة وتكافؤ الفرص، لبنان الحرّيات وجسر الحضارات.
والسؤال الإشكالية هو كيف نصل إلى هذا اللبنان المرتجى ونحن في المئوية الأولى لتأسيس لبنان- الرسالة؟ يبدو وكأننا ما نزال في مرحلة المراهقة التأسيسية، وأننا ما نزال نخفق في تثبيت جدارتنا في الاستقلال وفي الانتماء. إذ بعد قرون من الحكم العثماني، دخلنا مرحلة الانتداب الفرنسي. ما هي إلاّ سنوات ودخلنا في دائرة التأثير الفلسطيني تلاه الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من البلد. وتداخل ذلك مع الوجود السوري الذي ما إن انتهى بشكله العسكري حتى تشلّع البلد في دوّامة الأقطاب الإقليميين والدوليين، وما يزال.
يمكن الجزم بأن اللبنانيين مقيمين ومغتربين لديهم صورة ذهنية عن الذات الوطنية على خلفيّة التعلّق بلبنان، بلد المنشأ، والمحمول في أفئدة أبنائه التواقيّن إلى تظهيره و"تسويقه" بأبهى صورة. هناك إحساس عام بأهمية بقاء لبنان كمجتمع ورسالة وفكرة إلاّ أنّه إحساس غير متبلور في مشروع متوافق عليه جماهيرياً. أي أن الصورة غير مطابقة للأصل أو هي تشبهه من هذه الزاوية أو تلك. المهم أن نحدد جوهر الأصل وملامحه الرئيسية.
ما هو الأصل؟ لم نتفق بعد على تحديد واضح لماهية لبنان ووظيفته. والادعاء بغير ذلك لن يلغي تفاصيل الاختلاف بل يرتقي بها إلى درجة الخلاف الوجودي. لعل التوافق على تفاصيل الماضي أشدّ صعوبة من التوافق على ماهية الحاضر وعلى الرؤية الجامعة للمستقبل. ولعل الاستغراق في التفاصيل يحجب الكليّات الجامعة التي يسهل على الآخرين (غير اللبنانيين) أن يحيطوا بها، ويتوسلوننا تلمسها والتمسك بها.
ولبنان الحقيقي هو -على الأرجح- لبنان الكوني، فالمؤكد أنه قلّما وجد بلد آخر تفوق نسبة المهاجرين منه الباقين فيه، في حين أن مكوناته البشرية بتضميناتها العقائدية والفكرية والإنسانية تجعل منه نافذة أمل تتطلّع من خلالها البشرية إلى الخلاص؛
ما السبيل إلى التزام الأفراد بقضايا المجتمع الكبرى والتوافق على الهوية والدور(وطنية)؟ وكيف يضمن المجتمع حقوق الأفراد (مواطنية)؟. وحسب المنطق، فإن المواطنية تبني وطنيّة، بينما العكس ليس صحيحاً. وهل أنتج التزام الشعوب العربية بقضية العرب الكبرى مواطنين مكرّمين وكريمين؟
لبنان القابل للبقاء هو لبنان المواطنين، أي لبنان الحقوق. والحقوق المراد تظهيرها وإقرارها تمتد في المكان لتطال الإنسان بمعزل عن عقيدته وجنسه وجنسيته ومكان إقامته، وتمتد في الزمان أيضاً لتطال الإبن والحفيد عبر صيانة البيئة والموارد الطبيعية وتطويرهما بما يحفظ حقوق الأجيال القادمة.
لبنان 2020 في خطر شديد. هكذا يقول الغاضبون في الشارع. هذا هو لسان حال المعتكفين في بيوتهم. هذا ما تؤكده وكالات التصنيف وتقارير الجهات الدولية. هذا ما ننطق به جميعًا في قلقنا ووجومنا وارتباكنا. ولأن النزف شديد، يستحسن أن نتغاضى عن بعض الأمراض المزمنة ونركّز على المؤشرات الحيوية للكيان اللبناني.
لن أعود إلى التاريخ – في هذه المداخلة- إلاّ بمقدار حاجتي إلى الاستنارة بعبَر الماضي لاستشراف المستقبل. ما تقدم مجرّد لمحة سريعة، لكنها كافية لأن نتأمل سويًا ونتواضع قليلا في توصيف تاريخنا وتحديد القيم التي تأسس عليها لبنان. ربّما ساعدنا ذلك في التشخيص الأمين لما نحن عليه الآن: تحديد المفاسد التي تنخر هيكلية الوطن، وتمنع جريان المستقبل في شرايينه. أي مناطق التكلّس التي تعيق الانطلاق.
تعرض الورقة تشخيصًا موجزًا للتحدّيات الراهنة، أبرز الخطط المتداولة للمعالجة بما فيها البيان الوزاري الأخير، ثم رؤيتنا للتغيير الاجتماعي العميق من أربعة مداخل/محاور متكاملة هي: العمل، النزاهة، ترميم الذاكرة، وإدارة التنوّع.
أكرر بأن الورقة تعبّر عن رؤية ليس إلاّ. وأسجّل الاعتراف بأن الوقت ضاغط والأزمات داهمة والحاجات لا تنتظر. وألفتُ بدايةً إلى أمرين: الأول  هو إدراكي بأن الكثيرين يترقبون إجابات عن الكهرباء 24/24، عن أزمة المحروقات، الدواء، مدخرات المودعين، سعر الصرف، إلخ. وهذه أمور ملحة وتحتاج لحلول فوريّة. لكنّها ليست موضوعي هنا، فقط لأنني أعتبرها عوارض أو نتائج لخلل أعمق. وهو الخلل الذي أعاق لبنان منذ تأسيسه، وما يزال. وإذا كان المريض بحاجة لإسعاف أولّي قبل الشروع في معالجة المرض العضال، فلست أدّعي امتلاكي لجعبة الإسعاف، بل أرى أن هذه المهمّة تقع على عاتق أصحاب القرار وتحتاج إلى ورشة عمل طارئة تضم الخبراء والمسؤولين.
والأمر الثاني أن الورقة بمجملها تعكس رأي مواطن لبناني معنّي بشؤون بلده. أي أنني لست في وارد عرض لسياسات حاكمية مصرف لبنان أو مناقشة تبعاتها رغم أنني شغلت منصب النائب الأول للحاكم لعدّة سنوات. والأفكار التالية هي وجهة نظر شخصية في الأزمة الوطنية بكل تشعباتها، ومن ضمنها الجوانب المالية والاقتصادية. 

التحدّيات الراهنة
يواجه لبنان في الأعوام الأخيرة معضلتين؛ الأولى مالية ترتبط بارتفاع الدين العام إلى أكثر من 85 مليار دولار في آخر أرقام 2019، بعد أن كان يقتصر على ما يزيد على 40 مليار دولار في مطلع العام 2007. بهذا تصل نسبته إلى ما يتجاوز نسبته 155% من حجم الناتج المحلي للبلاد. والثانية اقتصادية تتمثل في ضعف النمو الاقتصادي؛ ففرص العمل نادرة، والبنى التحتية متردّية، وواردات الدولة من العملة الصعبة تكاد تختفي، فضلاً عن أن الحرب في سوريا عقّدت الأمور بشكل أكبر. والمعضلتان معًا تعنيان أن الدين يفوق حجم الاقتصاد؛ ما يجعل حكومة البلاد تواصل الاستدانة ومراكمة الديون دون سداد. بينما يتفاقم العجز في الميزان التجاري، حيث تزيد قيمة واردات البلاد (20 مليار دولار) بكثير عن صادراته التي بالكاد بلغت قيمتها في العام الماضي نحو 2.5 مليار دولار .
لم يتجاوز نمو إجمالي الناتج المحلي في لبنان، بحسب البنك الدولي، 0.2% في عام 2018، وارتفع معدل التضخم في العام نفسه ليبلغ في المتوسط 6.1%. وارتفع في نفس العام عجز الحساب الجاري إلى أكثر من 25%  من إجمالي الناتج المحلي بسبب اقتران النمو المنخفض للصادرات مع ارتفاع واردات المحروقات، بينما حافظت تحويلات العاملين في الخارج على معدّل سنوي مقداره 7.3 مليارات دولار.
بنتيجة التطورات الأخيرة، فإن النمو الاقتصادي الحقيقي أصبح سلبيًّا. وهنا تكمن مكامن الخلل الحقيقي وهو في حجم الاقتصاد الصغير، وفي معدلات النمو الاقتصادي المنخفضة أو السلبية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على حياة الناس وحاجاتهم اليومية ومستوى معيشتهم حيث تزداد معدلات البطالة وتقل الاستثمارات وتزداد الحاجة إلى الاستيراد ويزداد الطلب على الدولار.
معدّل البطالة هو الآخر تضاعف في السنوات الماضية، ليصل إلى أكثر من 30% في العام 2019، بعد أن كان 20% في العام 2014، وفق بيانات صندوق النقد الدولي .
فضلاً عن هذا، فإن نسبة الفقر في لبنان – أصبحت حاليًا تطال نحو 50% من السكان . كما اتّسعت رقعة عدم المساواة في الدخل بين اللبنانيين؛ إذ يعادل مدخول 0.1% من اللبنانيين مدخول نصف سكان البلاد مجتمعين، بحسب أرقام نشرتها وكالة "رويترز" نهاية عام 2018.
يعتمد الاقتصاد اللبناني بشكل كبير على الاستهلاك؛ إذ بلغ متوسط الاستهلاك الخاص 88.4% من الناتج المحلي خلال الفترة 2004 – 2016. كما سجَّل ميزان المدفوعات عجوزات متتالية، ولم تعد الدولارات التي يحصل عليها لبنان كافية لتسديد ما يتوجب عليه للخارج، وبلغت العجوزات التراكمية حتى الآن 18 مليار دولار، وهذا يعني استنزافًا متواصلًا لصافي الأصول الأجنبية في لبنان، التي يعد حجمها واستقرارها والقدرة على التحكم بها من الشروط الأساسية لتثبيت سعر صرف الليرة الاسمي إزاء الدولار، فأحدث هذا العجز مزيدًا من الطلب على الدولار وتهديدًا لاستقرار سعر صرف الليرة. وفضلًا عمَّا سبق فقد تدهورت في الآونة الأخيرة بيئة الأعمال بشكل عام مع تراجع لبنان من حيث البنية التحتية؛ التي يعتبر تصنيفها دون المستوى وتبلغ المرتبة 113 بين 137 دولة ، في حين يحتل لبنان المرتبة 143 بين 190 دولة من حيث ممارسة أنشطة الأعمال .

الواقع المالي المأزوم
نتيجة ما ذكُر عن التدهور الإقتصادي، تدهور وضع المالية العامة تدهورًا حادًّا عام 2018، إذ تجاوز الدَّيْن العام 85 مليار دولار. وتُقدَّر كلفة خدمة هذا الدين بحوالي 8 آلاف مليار ليرة لبنانية أي حوالي 5.50 مليارات دولار، كما جاء في قانون موازنة العام 2019، وهو يستنزف حوالي 44.2% من الإيرادات العامة. إن ارتفاع الدين العام والعجز المالي ونسبتهما إلى الناتج المحلي تُعتبر من أخطر ما تعانيه المالية العامة في لبنان، مع ما يستتبعه ذلك من تداعيات اجتماعية ومعيشية خطيرة تُرهق المواطن اللبناني بالضرائب والرسوم المرتفعة وسياسة التقشف كما هو مطروح حاليًّا.
في المقابل شكلت سياسة تثبيت سعر الصرف عبئاً مستمراً على المصرف المركزي، الذي أصبح مسؤولاً عن تعويض فارق السعر بين الدولار والليرة، كما أجبر المصرف المركزي على إنفاق العملة الصعبة، والسماح لنسب فائدة مرتفعة على الليرة اللبنانية لتشجيع المواطنين على إيداع مدخراتهم في المصارف.
فضلاً عن ذلك، بدلاً من اتجاه المصارف للاستثمارات وتمويل المشروعات التنموية، فضلت الاستفادة من نسب الفائدة المرتفعة لدى المصرف المركزي وسندات الخزينة الصادرة عن الدولة اللبنانية بالليرة اللبنانية واليوروبوندز، ما قلل من فرص النمو.

كذلك جاءت التصنيفات الائتمانية المتدنيّة من وكالات التصنيف الدولية لتزيد الطين بلّة على المالية العامة وعلى سعر صرف الليرة. فالتصنيف المنخفض يعني تدني الثقة بسندات الخزينة اللبنانية، وبقدرة الدولة على سداد مستحقاتها المالية، ما يسبّب ارتفاعاً في علاوات المخاطر ويُحدث مزيدًا من ارتفاع الفوائد وبالتالي ارتفاع كلفة الدين العام، وأيضًا مزيدًا من الضغط على الليرة اللبنانية.
وفي معرض التصنيفات، كان لبنان في المرتبة 63 عالميًا في العام 2006 في مستوى الفساد، ثمّ تراجع في 2007 ليصبح في المرتبة 99 من بين 180 دولة، وحل مؤخرًا في المرتبة 138 في تقرير "مدركات الفساد" لمنظمة الشفافية العالمية لعام 2018، والذي يرصد درجة انتشار الفساد في القطاع العام. أليس مخزيًا أن ننزلق بهذا الشكل المريع؟ مع التذكير بأن الفترة المعنيّة هي الفترة التي حكمنا فيها أنفسنا بعد أن انكفأت عن جغرافيتنا كلّ القوى العسكرية الأجنبية.
بالمجمل، نعاني من أزمات اقتصادية ومالية وسياسية تجعلنا عرضة للانهيار التام. يتداخل مع هذه الأزمات محيط مشتعل بالحروب والنزوح والعقوبات – الأمر الذي يجعل الكيان اللبناني أكثر هشاشة. ولا بدّ من الإشارة إلى خطأ الاعتقاد بأن الأزمة الاقتصادية في لبنان هي وليدة أسباب آنية ومرحلية. فالانكماش الاقتصادي وارتفاع الدَّيْن العام والعجز المالي هو نتاج تراكمات لنظام سياسي مبني على التناقضات والصراعات، ولنهج اقتصادي ريعي غير منتج عمره من عمر لبنان. وقد أسهمت الأزمة السورية في كشف هشاشة واهتراء الوضع الداخلي اللبناني بفُسيفسائه الطائفية والمذهبية، وأظهرت فشل النموذج الاقتصادي اللبناني في مواجهة التحديات، بل وفي الوقاية من الأزمات.

محاولات ومقاربات رسمية
أ‌- خطة ماكنزي الإقتصادية للنهوض
كلَّفت الحكومة اللبنانية الشركة العالمية "ماكينزي" بإعداد خطة اقتصادية. وقد أصدرت الشركة وثيقة "الخطة الاقتصادية للنهوض" التي تركز على تنمية وتطوير ستة قطاعات أساسية: الصناعة، والزراعة، والسياحة، والقطاع المالي، واقتصاد المعرفة، وقطاع الانتشار.
تكمن أهمية هذه الخطة في كونها تلامس خصائص المجتمع اللبناني وموارده الذاتية. ونعتقد أن تطبيقها يمكن أن يحدث الأثر المطلوب في بنية الاقتصاد اللبناني، وإعادة هيكلته تبعًا للمقومات الذاتية ممّا يحصّنه في مواجهة الأزمات.
ب‌- ورقة بعبدا الاقتصادية
دعت الخطة الاقتصادية الإصلاحية المعنونة "ورقة بعبدا الاقتصادية" إلى ضرورة الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، وتضمنت سياسات مالية واقتصادية واجتماعية، وإجراءات لمعالجة الخلل في الحساب الجاري الخارجي وبالتالي في ميزان المدفوعات، والخطة شاملة وتهدف لمعالجة جميع الأزمات، على الأقل كما تقدم نفسها.
دعت الخطة إلى التنسيق بين السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية لما فيه مصلحة الاقتصاد بشكل عام ودعم الإنتاج بشكل خاص، وأقرَّت بالانعكاس السلبي لارتفاع سعر الفائدة على خدمة الدَّيْن العام وعلى الاقتصاد والاستثمار، وتحولت المقاربة في سعر الصرف إلى "حماية الليرة بالإنتاج لا بالدَّيْن". ولحظت الخطة إجراءات وأهدافًا تدخل في التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية المستدامة، حيث تسعى إلى بناء "نموذج اقتصادي مؤنسن"، مع الحرص على حماية البيئة وتكريس احترامها عبر فرض ضرائب أرباح مرتفعة على الامتيازات والأنشطة المضرة بالبيئة، واقتراح خطة مستدامة لإدارة النفايات الصلبة، وزيادة الرسوم على السجائر، وإعادة النظر بتخمين الأملاك العمومية البحرية وتحصيل أموالها وإخضاعها للضريبة على الأملاك المبنية.
وبالرغم من إيجابيات هذه الخطة واعتراف السلطة السياسية لأول مرة في التاريخ اللبناني بفشل النموذج الاقتصادي الريعي المعتمد، إلا أن العبرة الأولى والأخيرة بالتنفيذ. إضافة إلى ذلك، تتضمن هذه الخطة فرض ضرائب ورسوم جديدة تتحمل عبئها الطبقة الفقيرة بالدرجة الأولى، وبعضها يُحبط الاستثمارات وبالتالي يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي.
جـ – مؤتمر سيدر
قدمت الحكومة قبيل انتخابات سنة 2018 في مؤتمر سيدر خطة اقتصادية تسمى "البرنامج الاستثماري الوطني للبنية التحتية"، تضمنت مشاريع في ثمانية قطاعات، وهي: النقل، والري والمياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والاتصالات، والنفايات الصلبة، والتراث الثقافي، والمناطق الصناعية. وقد قام مؤتمر سيدر على الركائز التالية:
أولًا: برنامج إنفاق استثماري في البنى التحتية؛
ثانيًا: إصلاح مالي؛
ثالثًا: إصلاحات هيكلية لتحديث الإدارة ومكافحة الفساد وتحديث التشريعات، وإصلاحات قطاعية لتحقيق الفائدة القصوى من الاستثمارات القطاعية؛
رابعًا: استراتيجية لتطوير القطاعات الإنتاجية وزيادة حجم الصادرات.
تبلغ قيمة البرنامج الإجمالية نحو 23 مليار دولار، ينفذ على ثلاث دورات تمتد الواحدة على أربع سنوات. الدورة الأولى قيمتها حوالي 11 مليارًا، والثانية 6.5 مليارات، والثالثة 5.5 مليار دولار.
إن تنفيذ مقررات وإصلاحات مؤتمر سيدر سيكون له الأثر الإيجابي على النهوض بالاقتصاد اللبناني وتحفيز النمو عبر توفير البيئة المناسبة للاستثمارات ويزيد من التنافسية الاقتصادية، ويساهم في تأمين فرص عمل، وبالتالي التخفيف من حدة الفقر وتحسين مستوى المعيشة. وهو يعكس حالة التضامن الدولي مع لبنان.
لقد هدفت خطة الاستثمار الرأسمالي بمؤتمر "سيدر" إلى الاستثمار في البنية التحتية العامة المتردّية في لبنان من أجل استحداث آلاف فرص العمل وتحقيق مكاسب أخرى على صعيد الكفاءة. لكنّ الإصلاحات الهيكلية تبقى ضرورية. فإذا أراد لبنان الخروج من دوّامة الدين والنظام السياسي الطائفيّ واعتماد مسار للنموّ المستدام، لا مفرّ من تعديل سياسته الضريبية، وإعادة هيكلة القطاع العام لأنه ضعيف الكفاءة ويستنزف الموارد العامة ويعيق الاستثمارات الضرورية، ويعجز عن تقديم الخدمات الأساسية. وإصلاح القطاع العامّ وخفض النفقات لا يعني بالضرورة اتخاذ تدابير تقشفية يمكن أن ترتدّ سلبًا على أمن البلد واقتصاده، بل عبر وضع تصوّر إيجابيّ لمستقبل لبنان وخطة أوسع لإعادة هيكلة الاقتصاد وضمان استدامته.
علاوة على انعكاس التقشف على الأمن الاجتماعي والاقتصاد، تشمل المضاعفات السلبية تكريس حالة من التبعية بين الممِّول والمقترض التي يفرزها هذا النوع من المؤتمرات والقروض الناتجة عنه. والأخطر من ذلك كله الخوف من أن يكون هذا البرنامج تكريسًا للنزوح السوري في لبنان كحالة أصيلة، إذ أنّه تتم الإشارة إلى هذا اللجوء مرارا في معرض سرد الموجبات والظروف. وهو خوف مضاف على الأزمة الأم المتمثلة في اللجوء الفلسطيني الذي مضى عليه سبعون عامًا ونيّف، والذي جاءت صفقة القرن، أو وصمة القرن، بمثابة المسمار الأخير في نعش القضية الفلسطينية، وفي تأبيد اللجوء وتوطين اللاجئين حيث هم.

البيان الوزاري الحالي
أقرّت الحكومة اللبنانية الجديدة بيانها الوزاري وتم نيل الثقة على أساسه منذ أسبوعين. ويعكس البيان في مندرجاته عمق الكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية. وهو يتطرّق إلى معظم جوانب الأزمة ويحاول التوفيق بين مطرقة الخارج (في السياسة والعقوبات واستحقاقات الدين والإصلاحات) وسندان التململ في الداخل (البطالة والفقر والمطالب الاجتماعية التي يجهر بها الحراك في الشارع كما يكظمها المواطن الخائف على أبنائه ومعيشته وشيخوخته).
حاول البيان الوزاري اتباع منهج علميّ في تحديد الأولويات، والتزم بمهل زمنيّة محددة لتحقيق ما يعد به. ويتضمّن في مطلعه قضية الإصلاح القضائي واستقلالية القضاء. ومن ذلك نفهم أن الحكومة مدركة بأن المفتاح إلى مكافحة الهدر والفساد هو استقلالية القضاء وفعاليته، لا سيّما وأن البند التالي في الإصلاحات بحسب البيان هو مكافحة الفساد. وقد تم تفنيد هذا الأخير في بنود خمسة هي: إقرار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، حث النيابات العامة على تحريك الملفات ذات العلاقة، متابعة التحويلات المالية التي جرت بعد 17 تشرين الأول، تعزيز دور ديوان المحاسبة وهيئة التفتيش القضائي، وإنجاز أو تعديل القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.
التزم البيان الوزاري بمندرجات مؤتمر سيدر، كما استند إلى الورقة الإصلاحية وإلى بعض مقررات وبرامج الحكومة السابقة. كما عرّج على مختلف القطاعات الأساسية كما وتطرق إلى بعض المشاريع الحيوية، مستعرضاً السياسة العامة للدولة فيما عنى الخارج وصراعات المنطقة والنزوح والتوطين، وعدد من القضايا المعلقة مثل المحكمة الدولية وقضية إخفاء الإمام الصدر وأخويه. واستلحق بنوده بالإشارة إلى قانون جديد للانتخابات النيابية. 
على شموليته، لم يتطرق البيان الوزاري صراحةً إلى نيّة الحكومة مكافحة الأشكال المستترة من الفساد مثل صرف النفوذ، تضارب المصالح، فك الارتباط بين السلطة ورأس المال، التوظيف الاستنسابي والانتخابي، المناقصات الوهمية والتلزيمات بالتراضي إلخ… كما فاته الإشارة إلى قضية الشيخوخة في سياق رؤيته حول تقوية شبكات الحماية الاجتماعية. وكنا نتمنّى لو أنّ البيان أتى على أزمة البطالة المزمنة والمستحدثة، ووضع تصورا فوريًا لتشغيل العاطلين عن العمل، ووقايتهم من ذلّ السؤال والعوز، وذلك عن طريق العمل على ردم الهوة بين القطاع التربوي وسوق العمل بشكلٍ خاص.

التداعيات المرتقبة
في المحصلة، مهما تعددت الخطط العلاجية، فإنه تجب معالجة مكامن الخلل الأساسية، وهي الفساد، ونهب المال العام وإهداره، والنموذج الاقتصادي الريعي. والخطة الناجحة هي التي تثبت واقعيتها ونجاعتها وقابليتها للتنفيذ.
في مرحلة لاحقة، دخل عامل جديد تمثلّ في العقوبات الاقتصادية التي أثرت، بشكل أو بآخر، على الوضع الاقتصادي اللبناني وامتدت شظاياها لتطول القطاع المصرفي برمته والذي يشّكل عصب الحياة الاقتصادية في لبنان. وإذا ما استمر هذا المسار، فلا شيء يحول دون أن تتدحرج الأزمة نحو الانهيار الكلّي، لاسيما أنه من المتوقع أن تصدر وكالة ستاندرد أند بورز تقريرها المرتقب والذي سيحمل خبرًا سيئًا للبنان في حال تم تخفيض تصنيف لبنان الائتماني. هذا فضلًا عن انخفاض سعر الليرة أمام الدولار في السوق الموازي للمصارف، حيث قارب بالأمس 2.400 ليرة للدولار الواحد بسبب شح الدولارات في القطاع المصرفي (مع أن السعر الرسمي الوسطي يبلغ 1507.5)، رغم كل محاولات مصرف لبنان لتجنُّب ذلك.
يقف لبنان أمام سيناريوهات متعددة لحجم الانهيار، وإن كان الانهيار الكلي على الطريقة اليونانية مستبعدًا بسبب الخوف من هجرة النازحين السوريين إلى أوروبا، ونظراً لأن أكثر من 86% من الدَّيْن العام هو للمصارف اللبنانية، بالإضافة إلى ما تشكّله الموجودات الخارجية لدى مصرف لبنان من احتياط استراتيجي والذي يصل إلى 31 مليار دولار، دون الأخذ بالاعتبار قيمة الذهب التي تعادل حوالي 14 مليار د.أ. وفقاً للسعر السوق الحالي. كما تلتقي مصلحة جميع الأطراف السياسية في البلاد حول تجنب حدوث الانهيار، ولكلّ دوافعه واعتباراته.
لذلك، سيبقى المشهد السياسي الداخلي شبيهًا بما هو عليه الآن بانتظار الترتيبات الجديدة والتشكلات الناجمة عن مخاض المنطقة. ومن شأن أي تبدلات في موازين القوى الداخلية وحجمها في التأثير أن تنعكس على الساحة الداخلية. وستنتهي مشهدية الانقسام التقليدي، مما يمهّد لتسويات وتحالفات جديدة، تبعًا لتطورات المنطقة. وفي الوضع الاقتصادي، سيبقى لبنان معرضًا لخطر الانهيار ما لم يحدث تغيير جذري في بنية الاقتصاد الريعي بغية انتقاله نحو الاقتصاد الإنتاجي.

من أين نبدأ؟
بما أننا بتنا في عمق الأزمة، فعلى كل مواطن لبناني أن يكون شريكا بالحل بالتوازي مع إجراءات الدولة اللبنانية التي يجب اتخاذها فوراً. وإزاء تشعّب الأزمات وامتدادها وتعمّقها، يستدعي الخروج منها ابتداع رؤية متكاملة ورسم السياسات والاستراتيجيات المناسبة مع اتخاذ سلسلة تدابير آنية ومتوسطة وبعيدة المدى. ولأن لبنان له خصوصيته في تركيبته وواقعه، ولأنه يقع في عين العاصفة التي تجتاح المنطقة، ولأنه لا يستطيع أن يكون بمنأى عن التدخلات الخارجية والدولية، سيكون الخروج من المأزق شائكًا وطويلاً ومرهقًا.
أولا: حيّ على العمل
قبل الأزمة الراهنة، كانت أرقام البطالة في لبنان من أعلى النسب عالميًا. بموازاة ذلك، تذهب آلاف الفرص إلى العمال الأجانب بإرادة لبنانية أو بدونها، فعمال المنازل موجودون بإرادة أصحابها، وعمال البناء والزراعة هم بمعظمهم من النازحين السوريين. لن أغوص في متاهة الأرقام بغياب الإحصائيات الموثوقة ولأن الواقع يتغير من يوم إلى آخر، لا سيّما في الأشهر الأخيرة التي شهدت إقفال مئات المؤسسات وتسريح عمالها.
أتوّقع، وآمل، أن تحدث الأزمة الراهنة صدمة إيجابية تدفعنا إلى إعادة النظر في مفهومنا للعمل. رجائي ليس مبنيًا على آلاف فرص العمل التي وُعدنا بها بموجب "سيدر" ومشاريع البنية التحتية، بل على كون الحاجة أمّ الاختراع. فندرة الدولار المخصص للاستيراد هي فرصة لتنشيط الانتاج المحلّي؛ وضعف الثقة بالمصارف سيتبعها – في المديين المتوسط والبعيد – توظيف جزء من المدَّخرات في إطلاق مشاريع صغيرة ومتوسطة بتمويل لبناني؛ وعدد المستخدمين في المنازل يميل إلى التراجع بسبب عجز الأسر عن سداد مستحقاتهم بالعملة الأجنبية؛ وعقم سوق العمل العائد إلى ضعف التنوع في الاختصاصات سوف يدفع نحو تعزيز الاختصاصات المهنية الإنتاجية ويرفع من مستواها؛ والمسرَّحين من وظائفهم في القطاعين العام والخاص سيبحثون عن فرص بديلة في أعمال إنتاجية في المزرعة أو المعمل أو في وظائف طالما اعتبرها اللبنانيون وضيعة أو مضيعة للوقت.
لطالما كان العمل قيمة إيجابية في ثقافتنا وأدبياتنا وكتبنا السماوية. وبقليل من التواضع والواقعية وبفعل الحاجة، سنعود إلى اتكالنا على سواعدنا وعقولنا ومصانعنا وبيادرنا، وندخل في دائرة العمل المنتج عوض انتظار الفائدة على وديعتنا المصرفية أو عائد إيجار الشقة العقارية.
ثانيا: العمل بنزاهة
من التعابير الأكثر تداولاً هذه الأيام: المال المنهوب، الفساد، الهدر، التلزيمات، المحسوبيات، وما شابه. والنظرية الرائجة تقول بأن استعادة المال المنهوب وإيقاف مزاريب الهدر  سيعيدان لبنان إلى سابق عهده من الرخاء والبحبوحة. هذه فرضية منطقية، بغض النظر عن مدى قابليتها للتحقق، إلاّ أن القضية أوسع وأعمق من استرداد مالٍ نُهب، أو تسريح محسوبٍ وُظّف خلافاً للأصول وتكافؤ الفرص. واسمحوا لي أن أتوسّع قليلا في قضية النزاهة لأن الفساد هو أم الآفات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه.
الفساد في أبسط تعريفاته هو استغلال السلطة العامة لتحقيق منفعة شخصية. والفساد على أنواع، فهناك الفساد الأخلاقي أو العقائدي، أو السياسي، الإداري، الاقتصادي، المالي، المؤسسي، الخ… ويتخذّ الفساد أشكالًا مختلفة كالرشوة والمحاباة والمحسوبية والابتزاز والسطو على المال العام وتبييض الأموال والتقصير في أداء الواجب، وتعطيل مصالح المواطنين، و… و…
ولعلّ الإشكالية المفتاح لتفكيك إشكالية الفساد هي تضارب المصالح، لا سيّما المصالح العابرة للقطاعات، وتحديدًا القطاعين العام والخاص. وإشكالية العام والخاص موضوع جدليّ في عالمنا العربي.
الملاحظ أن بيوتنا واسعة ونظيفة، بينما شوارعنا أزقة متسخة. والتفسير أننا رعايا مقيمين ولسنا مواطنين. فالكثير من الممارسات يمكن تصنيفها بأنها اعتداء من الخاص على العام. مثل رمي النفايات، وتلويث الأرصفة، وتحطيم مصابيح الإنارة، وتجاوز الإشارة الحمراء، والمساهمة في نشر الشائعات وغيرها من الممارسات الفاسدة التي لا يمكن تبريرها بغضب الشارع أو بضرورات التعبير عن السخط. ويمكن التوسّع في مضاعفات الفساد والبيروقراطية وما ينتج عنها من هجرة الأدمغة إلى الخارج، أو نحو القطاع الخاص، مما يسلب القطاع العام نصيبه من الكفاءات والأدمغة. بالمقابل، هناك عشرات الأمثلة التي تجسد اعتداء العام على الخاص، ومنها تدنّي الأجور في القطاع العام مما يدفع بالموظفين إلى قبول الرشاوى، حجب المعلومات والبيانات مما يعيق أداء المواطنين لدورهم الرقابي؛ علاقات الإنتاج المبنية على الفردية والنجاح الشخصي مما يطيح بمفاهيم المشاركة والتكامل والتراكم وتكافؤ الفرص؛ التوظيف على أساس القربى والولاء بدل الكفاءة؛ ارتباط السلطة برأس المال وتأثير الأخير في العمليات السياسية المفصلية كالانتخابات وإمكانيات المحاسبة والمساءلة.
بكلّ الحالات، لا يعتقدنّ أحدٌ أن الفاسدين أو المفسدين الفوقانيين سوف يحاسبون أنفسهم، أو يحكمون على أنفسهم بالنزول من برج سطوتهم. بل – على المتضررين التحتانيين أن يكشطوا المفاسد والروائح التي تعيق تسلقهم إلى أعلى الدرج لتنظيفه. وأرجو أن لا يستنتج أحدٌ بأنني ألقي اللائمة على المستضعفين والمنهوبين، وأبرئ السارقين. لا، أبداً. بل أنا أقترح منهجًا واقعيًا وعمليًا يساعد في بناء المستقبل (ولن يبنيه إلاّ أبناؤه) بدل الاستغراق في التآسي على الماضي (وما أفسده إلا الطائفيون).
هناك مقولة شائعة مفادها أن السمكة تفسد من رأسها، وأن شطف الدرج يبدأ من فوق. ولستُ ميّالا لاتباع هذا المنهج ولسبب بسيط. المعتقد على نطاق واسع أن الفساد يبدأ من فوق وعليه يجب البدء بالإصلاح من فوق. اعتقادي أن الفساد الخطير عندنا ليس الفساد المرئي أو الملموس المتمركز في الأعلى والذي يسهل شطفه بالماء، بل إنّه الفساد العميق المتغلغل في ثنايا الدولة العميقة والمجتمع. بل وفي ثقافتنا بكل تفاصيلها وممارساتها، في البيت والمدرسة والشارع، والذي تنبعث روائحه من أسفل إلى أعلى.
اعتقد جازما أنه ليس هناك من وصفات سحرية تعالج الفساد. فالترياق متوافر في كلّ مكان، حيث نجده في النصوص السماوية، والتشريعات الوطنية، والمواثيق الدولية التي تتناول حقوق الإنسان والحوكمة والشفافية والمساءلة. الدواء الناجع متوافر في ضمير كلّ واحد منّا، فمن منّا يشتبه عليه الخطأ والصواب؟
مطلب النزاهة يتحقق بثقافة نابذة للفساد حجر الزاوية فيها هو التربية والتعليم. أمّا عن مكافحة الفساد فهي ليست مسألة قضاء وقدر. بل قضاء فقط. قضاء مستقّل عن بقية السلطات.
” أيّ مانع من أن يقف القضاء قويّا نزيهًا صامدًا؟ وما المانع أن يكون القاضي مطلقّا بعد أن فقد المجتمع المؤمن كل مطلقاته …" . وهذه العبارة مقتطفة من خطبة للإمام السيّد موسى الصدر ألقاها في قصر العدل عام 1970. خمسون عامًا وما تزال العبارة ملائمة وضرورية. كأنما توقّف بنا الزمن أو أن قائلها رؤيوي.  
ثالثّا: ترميم الذاكرة
الثقافة النابذة للفساد هي ثقافة المواطنة – ثقافة الانتقال من كنف الانتماء الفئوي والعشائري الأولي والضيق إلى الانتماء الأرحب لقيم التكافل الاجتماعي ومفاهيم المشاركة الديمقراطية المسؤولة التي تختزن سلوكيات مشتركة فيها تحسس لحاجات الآخر وهواجسه وللمصلحة الوطنية العليا. إذ بهذا الانتقال نستعيد فخرنا بالانتماء إلى وطن اسمه لبنان، له دوره في هذا الزمن وفي هذا الإقليم.
الوطن المرتجى الحاضن لكلّ أبنائه هو وطن الأمان والفرص والحماية والعدالة. والوصول إليه متاحٌ وملّح. أما الاتفاق على المستقبل فلا يتطلّب بالضرورة الاتفاق على الماضي. ميزة الأزمة الراهنة أنها حشرتنا جميعًا كشركاء في الغرم. ولا بأس علينا لو كنّا شركاء في تحمّل المسؤولية كلٌّ حسب طاقته، وشركاء في اختراع الحل، كلّ حسب إبداعه.
لطالما كان كتاب التاريخ تاريخًا لمنطقة لبنانية بعينها هي جبل لبنان. لهذا كان ابن البقاع أو ابن الجنوب غريبًا عن ذاك التاريخ، ولا يعنيه. وفي التاريخ الحديث، اختلفنا حول من يصون السيادة ويصنع الاستقلال. هل هم مَنْ يذودون عن حدود البلد جنوبا وشرقا وشمالا؟ ام هم مناضلو المدن المدافعون عن شعارات الحرية والكرامة والمواطنة والنأي بالنفس عن صراعات الإقليم؟ أليس الأجدر بنا أن نستفيد من طاقات بعضنا البعض ونجيّرها بالتكامل فيما بينها جميعاً في ذات الاتجاه الوطني العام بدل وضعها في مواقع متناقضة؟ في اللحظة التي تراءى  لنا أن أزمة الاقتصاد وحدّت اللبنانيين في فقرهم ومعاناتهم، جاءت "صفقة القرن" لتعيد السياسة إلى قلب المشهد. لا نأي بالنفس. والقرار تمّ اتخاذه عنّا. 
طالما أن جغرافيا لبنان تمتدّ من الناقورة إلى العريضة، فإن تاريخه وقضاياه يعنيان الناس من الناقورة إلى العريضة وليس الحكام والأبطال والمعارك فقط، بل تاريخ الضحايا والمعذبين وما ابتكروه من مواثيق ومصالحات وإنجازات.
قد يقول قائل "…وما جدوى البحث في هذه المتاهة الآن؟، حدّثنا عن سعر الصرف، وشروط صندوق النقد الدولي!". اعتقادي أن قوّة العملة الوطنية من قوّة انتماء الناس للوطن، حيث يستمدّ الاقتصاد الوطني صلابته وملاءة رؤوس أمواله المادية من متانة رأسماله الاجتماعي؛ أما صندوق النقد الدولي فيدير الدول الفاشلة، ونحن لم نفشل بعد. علينا فقط البدء بمعالجة الشوائب في ثقافتنا العميقة.
رابعاً: إدارة التنوّع اللبناني
أقصد بالثقافة العميقة الانتقال من الدراسة إلى التعلم، أي من المعرفة إلى الثقافة، أي إلى السلوك. وأتفق مع القائلين بأن الثقافة الدينية ضرورية لفهم التاريخ والفنون، تاريخ المجموعات اللبنانية وفنونها وتراثها. وإذا كانت الشعائر والطقوس والعقائد تفرّق، فإن الإيمان الروحاني يجمع، إذ أن إلهنا واحد لا اختلاف على ملكوته. وفي تاريخ المناطق اللبنانية كنز هائل من الإنسانيات والمواقف النبيلة، وهذا هو جوهر تاريخنا وليس الصراعات والحروب. لطالما كان لبنان موئلاً للتواقيّن إلى الحرّية تجمعوا فيه هربًاً من الاضطهاد. " لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه"؛ فلننتقل به من الانعزال إلى التواصل، ومن التنابذ إلى التكامل. 

الخلاصة
أجل. لم نعد نملك رفاهية الاعتكاف أو الإنكار. لا مجال للخوف من المستقبل بل هناك فرصة لبنائه. لطالما كان لبنان ساحة عبور للصراعات والحملات، إلا أنه "الرسالة" كما وصفه قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وهناك فرصة لأن يستعيد دوره كجسر تواصل وواحة أمن وسلام.
وحتّى يكون لبنان فاعلاً في صياغة محيطه، لا بدّ من تكوين منعته الذاتية، وتثبيت تنافسيته وميزاته التفاضلية في الاقتصاد والابتكار والتجسير. وشروط النجاح في هذا الدور ثلاثة: المعرفة والفضيلة والحكمة، ولدينا المقوّمات.
الرأسمال البشري اللبناني مؤهل ومجرّب وجاهز. إذ طالما أثبت اللبنانيون جدارتهم حيثما حلّوا: في الاقتصاد والمال والإدارة والابتكار والسياسة. والقائمة تطول وتطول، قائمة النساء والرجال الذي أبدعوا وتعملقوا وأوجدوا الحلول لمشاكل وأزمات تفوق أزمتنا الراهنة.
هذا عن ركن المعرفة. أما الفضيلة فمرجعيتها الروحانية وهي أصيلة فينا أصالة القرآن والإنجيل، ودليلها التطبيقي متوافر في مئات المراجع الحقوقية والمواثيق الدولية. وذراعها القضاء المستقل.
يبقى الركن الثالث، الحكمة. والحكمة في حالتنا اللبنانية أن نبتكر المعادلة الدقيقة التي توازن بين النمو والتنمية على أن نشمّر عن سواعدنا للعمل، العمل اليدوي كما الفكري. خلل ميزان المدفوعات، الدين العام، البطالة، وغيرها من المؤشرات تُعالَج بتعظيم حجم الاقتصاد أو النمو. ومفرداته زيادة الإنتاجية، زيادة الدخل، خلق فرص العمل واستقطاب الاستثمارت الأجنبية. كي لا نقع مرّة أخرى في أتون الاضطراب الاجتماعي، وربما الحرب الأهلية. لبنان في قعر القائمة لناحية عدالة التوزيع. ولو أردنا أن نبني وطنّا فعلينا تبنّي شعار الأمم المتحدة:
Leaving no one behind and reaching the furthest first.  – (أن نُهمل أحداً وأن نعطي الأولوية للأكثر حاجة).
ورشة التنمية في لبنان أكثر تعقيدًا من ورشة النمو. فمؤشرات النمو بسيطة وأدوات قياسها معروفة. أما مؤشرات التنمية فمتشعبة ومترابطة وصعبة القياس والرصد. ولعلّ المؤشر الأكثر موثوقية هو إشراك الكلّ ومشاركتهم (Inclusiveness). نعتقد أن تفعيل الانتماء إلى الوطن وقضاياه يحتاج إلى إعادة النظر في مناهجنا التربوية (تحديدًا كتاب التاريخ والتربية المدنية)، وفي طرائق تدريسها. كما يحتاج إلى حملة منهجية لغرس قيم المواطنة وكرامة الإنسان والمسؤولية الاجتماعية وحرمة المال العام.
  تقرير البنك الدولي خريف 2019
  تقرير البنك الدولي نيسان 2019،
  تقرير صندوق النقد الدولي 312/19 – تشرين الثاني 2019
  بيان صحفي المدير الإقليمي للبنك الدولي، 6 كانون الأول 2019
  تقرير مكنزي 2019 
  تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2020، البنك الدولي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى