سياسةمحليات لبنانية

حكايتي مع العلم وسحر الانتفاضة..

 


          كتب محمد هاني شقير:
هو وجه العلم اللبناني الذي بشّر به قبل استقلالنا بيوم واحد عام 1943، فصار هكذا بعد أن تغير كثيرًا بحسب الاحتلالات والاستعمارات التي توالت على حكم بلادنا.
منذ وعيي وحتى تاريخ 17 تشرين 2019 لم يكن العلم اللبناني عندي يأخذ حيّزه الكامل، وكنت أميل إلى علم حزبي، وهذا الأخير، توأم علمنا اللبناني ورقيمه، ومِن عيوننا نراه يشبهه شكلًا ومضمونًا. وأعتقد أنّ هذا الأمر، يشاركني فيه كثير من اللبنانيين؛ فأعلام الأحزاب تراها منشورةً في كلّ ناحية، تتقاسم السواري، وتحتلّ الأعمدة والساحات، وهي تطغى في مشهد "فاضح" على علمنا الوطني، وإن صدف ورُفع علم لبنان على أيديهم؛ فهم يفعلون ذلك، مراوغة أو استحياء! حتّى أصبحت ذاكرتنا الجمعية تحفظ أعلام أحزابها التي يضيع في زحمتها علم الوطن.
في انتفاضة 17 تشرين كنت لتوي خارجًا من مؤسّسة أمنية تشبه، بمنتميها، الحزب الوطني، ففيها من شعب لبنان الواسع، ويغلب على عناصرها الطابع الوطني، وإن هي لا تخلو من تأثير النزعة الطائفية البغيضة، ولكن في مؤسّسة الأمن، تذهب مع الناس الى أبعادٍ وطنية محبّبة، تكتشف معها زيف الانتماءات الطائفية، مع أنّ فيها أيضًا، ضفّة للكفاءات… بإزاء ضفّة المحسوبيات.
تقاعدتُ بتاربخ 10 ايلول / سبتمبر 2019، وما هي إلا أيام حتى اندلعت شرارة الانتفاضة، فوجدتني بين الناس وفي قلب الشارع معهم، علمًا أنّ شعاراتهم وهواجسهم وأهواءهم لا تشبهني، أنا الخمسيني، كثيرًا، ولكنّها تحاكي، بصدق، طموحات الشباب بمن فيهم أبنائي.
هالني، كما هال المتربّصين، تمسك اللبنانيين بعلمهم، ورفعه وحيدًا "لا شريك له" في الشوارع، اللهم إلّا علم فلسطين الذي شاركه في بعض الساحات الجانبية من شاركنا وجعنا يومًا. كنت أخرج مع ابنتي وصديقتها كلّ عصر، نحمل العلم الأجمل، بفخر واعتزاز، ونمشي به ومعه مسافات طويلة؛ وبسبب الحواجز والمعوّقات على الطرقات كنا نفضل السير مشيًا على استخدام السيارة، ويبقى العلم مرفوعًا كل ذلك الوقت من دون أنّ نشعر به، بل هو تماهى في أكتافنا وأفكارنا… ومطالبنا المحقّة.
ذُهلت، ككثيرين، كيف أنّ لبنانيًّا ينظر الى ذلك العلم بخوف وغرابة! وكأنّه لم يره من قبل، ويستشعر به عدوًّا بدل أن ينصّبه منارة تهدي إلى ما جعنا وعطشنا إليه منذ الاستقلال. وهم تمكنوا، مع الأسف، بأدواتهم التي دسوها بين الجموع وتلك التي استهدفتهم من الخارح، مرةً جديدة من التصويب عليه، فأتخنوه وأتخنوا من حملوه، كمًا هائلاً من الاتهامات الباطلة، مدعومين من قبل بعض إعلام مرتهن وآخر سفيه، من إزاحته عن الساحات وتقويض عناصر قوة الناس وتفريقهم مرةً أخرى بإنتظار قيامتهم بعد حين.
لقد قرأوا في المدارس والثانويات والمعاهد والجامعات الخاصّة، والمؤسّسات التربوية على اختلافها، تاريخ لبنان بعدّة أوجه، يغلب عليها الجانب الطائفي، ويتوه في مناهجها الجانب الوطني الأشمل. بعض المدارس تلمّع صورة أعلام دول احتلت أرضنا سابقًا، وقتلت كثيرًا من شعبنا ومناضلينا، وأخرى سخّرت شبابنا لخدمتها في تحقيق مشاريعها. وهكذا ضَمُرَ العلم اللبناني في عقولهم وكَبُرَ علم الآخرين لديهم.
اليوم هو يوم العلم اللبناني، الأحمر يصرخ بدماء الشهداء، والأبيض الثلجي يرتّل أنشودة السلام، والأخضر ينبض بقلب الحياة. ولما عدت مع ابنتي وصديقتها، لتفقد الساحات وجدناها خاليةً من روادها الذين طبعوها بلونهم وخصائصهم، بقيت ثلة منهم تعمل ليل نهار مع مَنْ كسر حياتهم انفحار زلزالي ودمر منازلهم فحولها الى أثرٍ بعد عين، فسألنا: هل يعود العلم ليرفرف فوق هذه الساحات عما قريب؟

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى