منوعات

تطوُّر علاج مرض تصلّب شرايين القلب بالطرق التّدخليّة (الجزء الثاني)

كما أشرنا في مقالات سابقة فإنّ علاج أمراض تصلب الشرايين التاجية للقلب مرّ بمراحل متعدّدة يمكن تلخيصها كما سنرى بعدة مراحل واربع ثورات متتالية، وسوف نتناول بشكل تفصيلي ومختصر بقدر الإمكان كل مرحلة من هذه المراحل.
1- المرحلة الأولى : وهي بدأت منذ بداية خمسينيات القرن الماضي حيث لم يتوقف أخصائيو أمراض القلب والشرايين عن تحقيق الإنجازات المتتالية في مراقبة وعلاج مرضاهم، وكان الإنجاز الأول عبر تشييد غرف العناية الفائقة المخصّصة لمراقبة المرضى الذين تعرّضوا لأزمات قلبية حادّة  Coronary Care Unit : CCU والتي خففت بشكل كبير حالات الوفيّات عند المرضى الذين كانوا يصابون بالذبحة القلبية أو باضطرابات خطيرة في ضربات القلب أو بأزمات قلبية أخرى، واللذين كانوا غالباً ما يتوفون في منازلهم أو في أسرّتهم داخل المستشفى فجأة بسبب اضطرابات خطيرة بضربات القلب خلال الساعات الأولى من إصابتهم بالذبحة القلبية (Myocardial (Infarction، وقد أمكن من خلال هذه الوحدات مراقبة هؤلاء المرضى في هذه الفترات العصيبة وعلاجهم بواسطة الصدمات الكهربائية لأنّهم كانوا يخضعون لمراقبة مشدّدة لتخطيط القلب(Monitoring) والعلامات السريرية والحياتية المهمّة (ضغط شرياني،نبض القلب،سرعة التنفس،علامات قصور القلب ،كمية البول في اليوم الخ)،اضافة الى اجراء الفحوصات البيولوجية والمخبرية التي تستدعيها حالتهم في هذه اللّحظات الحرجة.
وتكررت بعد ذلك إنجازات الباحثين اللذين طوّروا بشكل رائع أدوية كثيرة وفعالة منها : مضادات التخثر، ومن أهمها الأسبرين الذي لا يزال الدواء الاوّل الذي يجب على كل مريض قلب تقريبا أن يتناوله حتى تاريخ اليوم ، وأدوية مسيلة قوية جدا مضادة للتجلّط وتذيب الجلطة المتكوّنة داخل الشريان Fibrinolytics or Thrombolytics  والتي لعبت في ما بعد دوراً مهماً في تخفيف حدة إصابة عضلة القلب عن طريق فتح الشرايين المسدودة خلال الساعات الأولى من الإصابة ،وإعادة الدورة الدموية الكاملة إلى جميع أنحاء هذه العضلة، ما قلل أيضاً بشكل كبير نسبة الوفيات عند المصابين بهذه الذبحات القلبية. وقد شكّل ذلك ثورة كبيرة في علاج الذبحات القلبية الحادة وسمح لسنوات متعدّدة بانقاذ حياة عدد هائل من المرضى الذين كانوا يتوفّون قبل ذلك بسبب قصور عضلة القلب الناتج عن استمرار الانسداد الكامل في الشريان المسؤول عن هذه الذبحة.وقد أجريت على هذه الأدوية وغيرها من الادوية الجديدة تجارب عديدة شملت آلاف المرضى ،سمحت بتقدم هائل في مختلف العلاجات الدوائية والتي تتوفر اليوم لمرضى القلب في لبنان بمعظمها ،لكنّ استعمالاتها تدنّت بشكل كبير مع تطوّر الطب التدخلي للقلب ولجوء الأطباء في لبنان ومعظم دول العالم المتقدم الى استعمال التقنيّات التّدخليّة في علاج الذبحات القلبيّة (Primary Angioplasty )  عند أغلبية المرضى، خاصة اذا وصل المريض بشكل مبكر ،أي قبل مرور 6 الى 12 ساعة من بدء ظهور علامات الذبحة القلبية،حيث أصبح العلاج التّدخلي هو العلاج الأوّل الذي يجب أن نطرحه على المريض والأول المستعمل حاليا في لبنان وعالميا في علاج الذبحة القلبية الحادة. ولا نلجأ عادة الى الأدوية المسيلة المضادة للتجلّط الّا في بعض الحالات الاستثنائية ،أي عند المرضى الذين وصلوا الى مستشفيات بعيدة أو ريفيّة غير مجهّزة بغرف التّمييل، أو عند بعض المرضى غير القادرين على تغطية تكلفة عملية توسيع الشرايين بالبالون والروسور . ونشير هنا الى ان اللجوء الى مثل هذه الأدوية  لايغنى كليا عن أجراء التمييل او للقسطرة في الايام التالية ،لأن هذه تفتح جزئيا الشريان ولا تسمح بإجراء العلاج النهائي الذي يجب ان يكون قطعا من خلال عملية القسطرة والطرق التدخلية.

2-المرحلة الثانية: وقد بدأت مع إكتشاف عمليات القسطرة أو تمييل شرايين القلب في أواخر خمسينيات القرن الماضي ايضا. وكانت في البداية تتم عبر شق صغير(Cut-down)  في منطقة المرفق من أجل الوصول الى الشريان الموجود في هذه المنطقة ( Brachial artery) لكن تطور التقنية واجراءها كما تتم حالياً من منطقة الفخذ لم يتطور الا في أواسط الستينيات بعد أن طوَر أحد الأطباء السويديون (Steven Seldinger) هذه التقنية، وتم استعمالها بعد ذلك على نطاق واسع من قبل أطباء مشهورين في ذلك الوقت ومن أهمهم (Kurt Amplatz ) و(Melvin Judking). ولاحقاً طور أطباء آخرون وفي مقدمتهم الطبيب الكندي ( Ferdinand Kiemenij) أساليب أخرى للتمييل من خلال شريان المعصم أو ما يسمّى بالشريان الكعبري(Radial artery) والتي أصبحت تستعمل من قبل أطباء كثيرين منذ سنة 1992 ،وهي تسمح بأن يعاود المريض نشاطه مباشرة بعد التمييل في ذات اليوم بعد العملية من دون الحاجة الى التمدد لفترة 6 الى 8 ساعات بعد العملية.و قد أصبح المرور بواسطة هذا الشريان أي من منطقة اليد الطريقة الأكثر استعمالاّ لاجراء عمليات التمييل في معظم المراكز العالمية وفي لبنان ،لأنّه يسمح للمريض بالخروج من المستشفى بعد ثلاث او أربع ساعات من اجراء عملية التمييل ،بعد أن كان عليه لزوما أن يبقى مستلقيا في المستشفى لمدة 6 الى 8 ساعات من عملية التمييل عند المرور بواسطة شريان الفخذ ،وذلك لمنع حالات النزيف التي كانت رائجة جدا وتعتبر من أخطر الأعراض الجانبية لعمليات التمييل التي تستعمل شريان الفخذ والتي تمّ القضاء عليها بالكامل مع استعمال شريان المعصم.
وكان التطور الأهم في تاريخ علاج مرض تصلب الشرايين التاجية للقلب مع تطوير تقنيات التوسيع بالبالون سنة 1977. لكن أطباء القلب لاحظوا أن المعضلة الاساسية التي كانت تواجههم في تلك الفترة التي امتدت حتى سنة 1986، عند اجرائهم لعمليات توسيع الشرايين، كانت في معاودة انسداد الشرايين في المكان الذي تم فيه التوسيع في فترة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر بعد تاريخ العملية وهو ما يعرف طبياً بال       Restenosisلذلك قاموا بإستعمال اساليب متعددة لمحاربة هذه الظاهرة. ولذلك اعتبر اكتشاف الروسور (stent ) سنة 1986 تطورا آخر هائلا في مجال علاج أمراض القلب والشرايين، واعتبر اكتشاف وتطوير الروسورات فيما بعد بمثابة نجاح كبير في المعركة الدائرة بين أطباء القلب وعدوهم اللدود المتمثل في معاودة بانسداد الشرايين التاجية للقلب.
3-المراحل التاريخية التي مرت بها تلك الثورات:
أ-الثورة الأولى ( 1977-1986): تطور علاج أمراض القلب والشرايين بالبالون ( angioplasty Balloon):
    يعود الفضل في تطوير عملية توسيع الشرايين بالبالون إلى طبيب سويسري شهير  من أصل نمساوي اسمه (Andreas Gruntzig)  والذي قام في سنة 1977 بأول عملية توسيع لشرايين القلب التاجية بالبالون ، وطوّر بشكل واسع جميع الأدوات التي تستعمل حتى اليوم في هذه التقنية بعد أن هاجر الى الولايات المتحدة الأميركية حيث اعتبر الأب الروحي لهذه التقنيات، وعلّم الأطباء الأميركيين هذه التقنية التي لا تزال في تطور مستمر منذ ذلك الوقت. وقد عمل مهندسو وخبراء الشركات الطبية المتخصصة  وبتعاون وثيق مع الأطباء على تطوير هذه التقنية وإيجاد وسائل قادرة على توسيع معظم تضيقـات الشرايين تقريباً مهما كانت درجة صعوبتها . وقد تطورت عمليات توسيع الشرايين بالبالون بشكل مهم في تلك الفترة ونافست بشكل كبير العمليات الجراحية ( القلب المفتوح ) بسبب سهولتها وقدرتها على علاج معظم الحالات المرضية.
ولكن المشكلة الاساسية لعمليات توسيع الشرايين بالبالون كانت كما ذكرنا في معاودة الانسداد التي تم دراستها ومحاولة مكافحتها من خلال أكثر من سبعين دراسة شارك فيها حوالي خمسين الف مريض ،وتم خلالها اختبار عدة أدوية ومواد مضادة لتكاثر الخلايا والالتهابات ومعدلات المناعة ومضادات التخثر وغيرها، دون منفعة كبيرة في كل تلك الدراسات .وقد حاول أطباء القلب أيضاً معالجة هذه المعضلة بتقنيات أخرى مختلفة تعمل على تذويب او  تفتيت الكتل الدهنية او استخراجها او على منع تكاثر الخلايا الموجودة في منطقة الانسداد مثل تقنيات الليزر والاشعاعات والترددات الصوتية وغيرها (Directional atherectomy Transluminal  extraction atherectomy، Laser، Brachytherapy، Rotational atherectomy، Therapeutic ultrasound….).
ولكن كل هذه التقنيات  لم تلق ايضا نجاحاً كبيرا وسقطت فيما بعد ولم يبق لها مكان سوى في بعض الحالات الخاصة وفي مجال الأبحاث الى ان تم في نهاية تلك المرحلة اكتشاف الروسورات والذي شكل ثورة حقيقية في هذا المضمار.
جزء ثالث لاحقا

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى