سياسةمحليات لبنانية

الطريق الجديدة..وطن في حي!

 

محمد هاني شقير
لَفتني مشهد مريب في ذكرى 14 شباط 2020، في ساحة الشّهداء، خلاصته عراكٌ وإشتباكٌ بين مواطنين جاؤوا لقراءة الفاتحة على ضريح الشهيد رفيق الحريري.

ماذا يجري؟ سألت أحدهم، فقال هو عراك بين مناصري الأخوين بهاء وسعد الحريري! حيث كان الجيش وقِوى الأمن الداخلي يفصلون بينهم؛ وهم يقذفون بعضهم بعضًا بما ملكت أياديهم من أجسامٍ صلبة تؤذي منَ تُصيبه.
ذلك المشهد أسّس لحالة جديدة لم يشهدها لبنان، أو لم أعرف مثيلاً لها، وهي أن يتقاتل جماهير شقيقين ويعتدون على بعضهم بعضًا.
عادت بي الذاكرة سريعًا الى معارك المتحف التي خاضها اللبنانيون ضد المحتل الغازي، وظهرت أمام ناظري صور لدبابات العدو الصهيوني وقد دُمِرَت وأُحْرِقَت عن بكرة أبيها، والذاكرة عينها تأخذك الى قوات المرابطون والقوى الناصرية جميعها، ومن انخرط من سُنَّة لبنان _ عذرًا على التعبير _ في صفوف قوى تقدمية مقاومة، فيرعبك مشهد ذلك العراك وتصدمك تلك المتغيرات المجتمعية المخيفة.
وأمس، وقبله، تكرر المشهد في الطريق الجديدة، وكان أقسى وأقوى، فاستعمل المتحاربون السلاح وزرعوا الرعب بين الأهلين، وأفاق الناس على يأسٍ يعتصرهم من دواخلهم.
ففيما مضى كانت إذاعة صوت لبنان العربي المزروعة في شارع كورنيش المزرعة على الطرف الشمالي للطريق الجديدة، تبث من فضائها البيروتي ثقافة وطنية وناصرية وعربية، مترافقةً مع أغاني ثورية تبعث الحماس في النفوس ضد المعتدين وتؤصل حركة المجتمع البيروتي حامل لواء القضية الفلسطينية منذ بداياتها.
والطريق الجديدة ليست محلة عادية في مدينة عادية، إنها نقطة ارتكازٍ لمدينةٍ عريقةٍ في منطقةٍ جيو- استراتيجة اقليمية.
تأسّس في الطريق الجديدة نادي البطولات، نادي الانصار، فهو جمع اللبنانيين، إداريين ولاعبين وجمهور، من كل جهات الوطن، ولم يعرف أبناؤه لغةً طائفية أو مذهبية، وربما، بل بالتأكيد، يعود سبب نجاح هذا النادي لمستوى التعاطي القائم فيه، وهو يرتكز على مبدأ "من جدَّ وجد ومن زرع حصد" فليس فيه محسوبيات، ولا يوجد محاباة بين اللاعبين، وهم يعملون على قاعدة الكفاءة وبالتالي من يتمايز بانضباطه وسلوكياته ومستواه الفني يصبح من أساسيي الفريق، والأسماء خير شاهدٍ على ما نقول؛ أفلا يكفي فادي علوش وعلي فقيه ومالك حسون وجمال طه، ومحمد عطوي الذي لا زال يكافح للعودة الى الحياة بعد أن أصابته، في حي من الطريق الجديدة، طلقة خبيثة في رأسه؟!
في الطريق الجديدة شارع عفيف الطيبي، وهو شارع المحال التجارية التي يفتحها أصحابها قبل بلوغ الشمس طرف الكرة الأرضية، وتجمعهم مهنة البحث عن الحياة الكريمة، ولم تنشأ بينهم عداواة طيلة الحرب الأهلية، بل كانوا، متعاضدين ومتحابين ودليلنا زيجاتهم المشتركة، فلا تجد بناء إلا وبه زوجات وأزواج وبنات وأبناء من ديانات مختلفة، جمعهم لبنانهم الواحد.
ولمن يسأل عن عفيف الطيبي فهو، ابن الفلسطيني محمد شاكر الطيبي، وفي العام 1937، أنشأ صحيفة "اليوم" منبرًا لفلسطين وصوت مناضليها من اللبنانيين والعرب، بالاضافة الى دورها في العراق ابان الثورة الوطنية الكبرى في مواجهة النفوذ البريطاني. وبفعل مواقفه تعرض للاضطهاد عقب احتلال الجيشين الانكليزي والفرنسي لبنان في العام 1941. لجأ الى اسطنبول ثم غادرها الى برلين حيث تسلم رئاسة المكتب العربي. وباعلان استقلال لبنان وسورية، هاجمت المانيا الاستقلال، فدخل عفيف الطيبي على خط الوساطة محاولاً اقناع وزارة الخارجية الالمانية بوجوب الاعتراف باستقلال البلدين. ويومها قيل: "بفضل هذا الرجل تلاقى الموقفان الالماني والبريطاني للمرة الاولى"… في العام 1946، استأنف اصدار صحيفة "اليوم". وانتخب في العام 1958 نقيبًا للصحافة. وتجدد انتخابه لأربع مرات بحيث تمكن في عهده من تشكيل مجلس الصحافة الاعلى الاول، ووضع مشروع قانون التقاعد وصندوق الاسعاف للصحافيين. ويقول شقيقه مروان: "لا يعرف جيلنا عن عفيف الطيبي أكثر من كونه شارعًا، فهل من متسع لاستعادة سيرة ذلك الرجل الناصري بامتياز؟".
وفي الطريق الجديدة يعيش فقراء من جميع أنحاء الوطن، وهم، منذ أن تفتحت عيونهم وعقولهم، وجدوا أنفسهم في صيرورة واحدة، ولم ينتبهوا الى مذاهبهم إلا من باب تأدية واجباتهم الدينية كطقوسٍ اعتادوها ومارسوها بلا تعقيدات، واستمروا، معًا، كأبناء وطنٍ واحد، لم تتسلل إليهم لوثة التفرقة المذهبية. وفجأة وجدوا أنفسهم في مهب أحقاد غير أصيلة، أحقاد مستوردة من خلف البحار، يحاول مشعلوها أن يستثمروها لمصالح سياسية تخدم دولاً وقوىً عاشت تاريخيًا وفق مبدأ " فرِّق تَسُد".
الطريق الجديدة، هي مدينة في حي، وشعب في شارع، لذلك يجب على من نصّب نفسه وكيلاً، أن يعي مدى عمق ما ترتكبه يداه بحق هذه المنطقة، ويقدم لأهلها ما يستحقون من رغد الحياة، بعيدًا عن شظفها. أفليس هدم الكعبة أهون على الله من قتل إمرء بغير حق؟ فكيف بمن يقتل شعبًا بكامله؟!
* المعلومات عن سيرة حياة عفيف الطيبي مستقاة من مقال للصحافية رلا عبدالله، بتاريخ 27 ايلول 2010


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى