سياسةمحليات لبنانية

المتظاهر غير الظاهر..

 

منذ 17 تشرين اول 2019 , تشهد الساحات اللبنانية احتجاجات على زيادة الضرائب وتردي الأوضاع المعيشية والخدماتية والاجتماعية، والفساد المستشري في البلاد والمخاطر التي تهدد حياتهم بعد الأزمة المالية المفتعله، وتراجع سعر الليرة اللبنانية في السوق السوداء وما جرت معها من ازمات، وسرعان ما تمددت هذه التظاهرات الى مختلف المناطق اللبنانية

حشود جماهيرية من كل الاعمار والطوائف والمذاهب، أجواء احتفالية، شعارات ثورية سلميه، وصلة لراقصة شرقية تشعل مواقع التواصل الاجتماعي، وثنائي يعبران عن ثورتهما بالرقص على أحدى السيارات و اخرون يتسامرون امام نراجيلهم , شبان يعانقون عناصر مكافحة الشغب و شابات يقدمن الورود لعناصر الجيش المنتشرين, وجبات طعام ساخن و مشروبات يتم توزيعها مجانا على المحتجين المنتشرين في الشوارع.
كيف للمرء ألا يفتخر بهكذا شعب ثائر مسالم طامح للتغيير، كيف يمكن للمرء ألا يتباهى بهذا الوعي السياسي القادر على إنهاء عقودٍ من الخلافات الحزبية والطائفية والمذهبية وكسر الجمود السياسي الذي شل قطاعات الحياة الاجتماعية والاقتصادية وتسبب بهجرة الأدمغة.
لكن مهلا أيها السادة، هل تسمحون لي ان ادقق أكثر بخلفية هذه اللوحة الوطنية العظيمة، هل هي حقا عفوية؟ كيف يمكن أن تكون على هذه الدرجة العالية من التجهيز والتنظيم والتمويل؟
ان إصرار بعض وسائل الاعلام والمحللين والمتظاهرين على "عفوية" الحراك الشعبي لا ينم الا عن ذاكرةٍ قصيرة او عدم كفاءة بقراءة المعطيات أو انحيازٍ لأجندة معدة مسبقا.  اذ ليس هناك من حاجة للبحث في السجلات التاريخية لاستنتاج الحقائق فتجربة العقدين الأخيرين واضحة بشكل لا لبس فيه.

في الفترة الممتدة ما بين الاعوام 2000 و2005، شهد العالم سقوط الحكومات الموالية لروسيا في كل من صربيا (2000)   عبر حركة المقاومة  Otpor , جورجيا (2003) عبر حركة كفى Kmara  , أوكرانيا (2004) عبر حركة حان الوقت Pora  , وقيرغيزيا او كازاخستان (2005) عبر حركة النهضه  Kelkel  , من دون إراقة نقطة دم واحدة (Bloodless War)عبر ما سمي بثورات مفتعلة هدفت الى تفكيك إرث الاتحاد السوفيتي ضمن استراتيجية قادتها الولايات المتحدة الأمريكية و تداخلت في صناعتها أجهزة المخابرات والدوائر الدبلوماسية ووسائل الإعلام وقد كانت رأس الحربة في تنفيذ تلك الاستراتيجية منظمات المجتمع المدني  الاميركية  التي استطاعت ان تجند المئات  وان تخدع عبرهم  عشرات الاف المواطنين المحتجين من مثقفين و متعلمين واميين بادعاء ما يحدث على أنه يمثل حراكاً شعبياً تلقائياً عفويا تلبية لطموحاتهم واللعب على وتر انتمائهم و استقلالهم و حريتهم الا ان الحقيقة لم تكن سوى استغلالهم لتنفيذ أجندة المصالح الأمريكية في منطقتهم أي استبدال أنظمة هذه الدول المتاخمة لروسيا بأنظمة موالية للولايات المتحدة وبمعنى اخر استخدامهم كسجادة ملونه وطئوها بنعالهم لإيصال حلف الناتوNATO الى عتبة عدوهم التاريخي, روسيا.

لم يدم الامر طويلا حتى تبين ان من هذه "الثورات" كانت نتاج واسع من التخطيط والتجنيد والتدريب والتمويل وتوظيف التقنيات التكنولوجية والاعلام والسياسة لتصدير الديمقراطية الأميركية للعالم بما يخدم مصالحها الاستراتيجية حول العالم عبر عدد من المنظمات يتم تمويلها من الميزانية الأميركية ومن أبرز هذه المنظمات:

1.    الوكالة الأميركية للتنمية الدولية United States Agency for International Development-  USAID

2.    الصندوق الوطني للديمقراطيةNational Endowment for Democracy (NED)  ويضم اربع هيئات :

المعهد الجمهوري الدولي ((IRI International Republican Institute
المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية (NDI) National Democratic Institute
مركز المشروعات الدولية الخاصة Center For International Private Enterprise Inc (CIPE)
المركز الأميركي للتضامن العمالي الدولي American Center for International Labor Solidarity (ACILS)
3.      بيت الحرية Freedom House

4.    برنامج فولبرايت Fulbright Program

5.      مؤسسة ألبرت إينشتاين  Albert Einstein Institution(AEI)

6.        معهد المجتمع المفتوح  Open Society Institute(OSI)

7.    معهد السلام الأمريكي      United States Institute of Peace  ( USIP)

مدير ملف مكتب الربيع العربي.


وقد توضحت خيوط المؤامرة في شرق اوروبا بشكل جلي بعدما تبين ان هذه "الثورات" كانت نتاج إيديولوجيا المقاومة الفردية اللاعنفية التي نظّر لها  الأميركي جين شارب المتخصص بالعلوم السياسية و مؤسس منظمة البرت اينشتاين التي دربت ومولت حركة المقاومة الصربية Otpor التي أطاحت بحكومة ميلوسيفيتش والتي اتخذت القبضة المضمومة شعارا لها ثم انشئت مركزاً لتدريب الثوار من جميع أنحاء العالم في بلغراد تحت اسم "مركز  الاستراتيجيات والأعمال اللاعنفية التطبيقية Centre for Applied Nonviolent Action and Strategies(CANVAS),   الممول من المعهد الجمهوري الدولي ((IRI International Republican Institute و بيت الحرية Freedom House

جوهريا لا تختلف الاسباب التي فجرت الاحتجاجات الشعبية في الدول التي اصطلح على تسميتها بدول الربيع العربي عن مثيلاتها في دول أوروبا الشرقية مع وجود لافت للقواسم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية المشتركة والتي غالبا ما تطال الحقوق الدنيا للمواطن بحياة كريمة , مما جعل تراكم الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعيشية بمثابة قنبلة مشبعة بالمواد القابلة للاشتعال والتفجير عند اول شرارة ومما شكل مدخل طبيعي لهذه المجموعات لإثارة طبقات ذوي الدخل المتوسط والمحدود بعدما تقلصت اقصى امانيهم بلقمة عيش ومأوى, وبالتالي فقد وجدت العقول المدبرة و المنظمات الراعية لتمويل تصدير الديمقراطية الأميركية الأرض الخصبة لتمويل و تدريب و تقديم المساعدات اللوجستية والتنظيمية لناشطين من منظمات غير حكومة وجمعيات المجتمع المدني  كي يقودوا حركات الاحتجاج الشعبية الهادفة لإسقاط الأنظمة من بوابة المطالب الاجتماعية. فخبراء (CANVAS)  لم يبخلوا بتدريب الناشطين على استراتيجية المقاومة الفردية اللاعنفية التي ابتداعها السياسي الأميركي و مؤسس مؤسسة ألبرت إينشتاين   البروفيسور جين شارب  Gene Sharp  وتكتيكات الكفاح غير المسلح و اللاعنف»  في محاولة لاستنساخ تجربة منظمة «أوتبور OTPOR» في كل من جورجيا وأوكرانيا، وبيلاروسيا والبانيا وأوزبكستان والمالديف وفنزويلا ( JAVU) وإيران ( الثورة الخضراء) والسودان, وهونغ كونغ ولبنان 2005 و 2019 ,  كما ان معهد السلام الأمريكي   (United States Institute of Peace  (USIP الذي تولى  إدارة ملف مكتب الربيع العربي عمل على تدريب آلاف الناشطين العرب على هذه التكتيكات في معاهد متخصصة في صربيا وبريطانيا والنمسا وقطر، ومن السهل  أيضا ملاحظة اعتماد هذه التكتيكات في دورات «اكاديمية التغيير» التي كان يديرها الدكتور هشام مرسي صهر الشيخ يوسف القرضاوي.
لا يختلف العقل المدبر الذي فجر الثورات الملونة في أوروبا الشرقية وغيرها عن تلك الحركات التي اصطلح على تسميتها بدول الربيع العربي من خلال إيهام المجتمع المدني بأنها تتبنّى مطالبه وتطلعاته العميقة، ودعمه لإسقاط و تغيير الانظمة الحاكمة واعتبار ذلك المدخل الصحيح لمعالجة جميع الازمات الاقتصادية والحاجات المعيشية والمشكلات الاجتماعية بطريقة سحرية إضافة الى تسخير القدرات لإظهار التمرد كحركة شعبية عفوية بوجه وطني صرف ( الشعب يريد….) (علم الوطن) ( سلميه ) الا ان الهدف الأساس لا يخدم هذه الشعوب المستضعفة وانما المصالح الاستراتيجية الأميركية في الدول المستهدفة، عبر اثارة حالة من فوضى الاضطراب السياسي من باب مطلب الخروج من أزمات اقتصادية يكون العقل المدبر هو من ساهم بخلقها اصلا .
وما إن ينتهي الدور المناط بما يسمى بالناشطين المتدربين او العملاء الملقبين ب (نشطاء الانترنت) (Cyber dissidents) .، حتى تسارع الدولة الراعية الى قطف ثمار استثمارها بعد اسقاط النظام السابق بأنظمة ضعيفة تابعة خانعة تلبي متطلباتها دون تحقيق أي من مطالب الشعب المعيشية.

وهنا استشهد بالشاعر نرار فرنسيس

بِدْيِت الثورة بِعنوانا الكبير
ثَورِة وطن.. والهَمّ تنضيفو

كلّن تْخَبّو وَرا رْغيف الفقير
وْضلّ الفقير.. مْضَيِّع رْغيفو

وللحديث  تتمة. نحو لبنان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى