الرئيسيةدوليات

روسيا أمام أسئلة اليوم التالي: قَطوع «التمرّد» ينتهي… وآثاره تبقى

الحوارنيوز – الاخبار

تحت هذا العنوان كتب خضر خروبي يقول:

منذ بدء الحرب في أوكرانيا، انبرى المعلّقون الغربيون إلى طرْح التساؤلات التي سوف تتركها تلك الحرب على النظام السياسي في روسيا، ومستقبل بقاء الرئيس فلاديمير بوتين في الحُكم. ولطالما أشارت هذه التساؤلات، في أكثر من سياق، إلى شخصيّة محورية بزغ نجمها خلال الأشهر الماضية، هي يفغيني بريغوجين، قائد ومؤسّس مجموعة «فاغنر» المسلّحة، التي تقدّم خدمات عسكرية وأمنية للكرملين، وذاع صيتها داخل روسيا وخارجها. على هذا، يبدو المشهد الانقلابي أو حالة «التمرّد المسلّح»، كمّا سمّاها بوتين، والتي عايشتها «بلاد القياصرة»، خلال الساعات الماضية، على يد أفراد المجموعة نفسها، بهدف إطاحة القيادة العسكرية للبلاد، بدعوى تعرُّض عناصرها لقصف من قِبَل الطيران الروسي، أشبه بـ«نبوءة تتحقّق»، بعدما راودت «إشاراتها» عدداً لا بأس به من الصحف ووسائل الإعلام في الغرب. هو مشهد – لا شكّ – غير مألوف، لم تعهده موسكو منذ حقبة الاضطرابات السياسية في عهد آخر رؤساء الحقبة السوفياتية، ميخائيل غورباتشوف، في تسعينيات القرن الماضي.

وبقدْر ما حملت التطوّرات الروسية «أحلاماً وردية» معها لقادة غربيين، وحليفتهم كييف، بالنظر إلى أهميتها في تشتيت انتباه أركان السلطتَين السياسية والأمنية في موسكو، وبالتالي إرباك تحرّك الأخيرة العسكري في أوكرانيا، في وقت تعوّل فيه حكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على نجاح ميداني يقيها شرّ انقطاع المدّ الغربي المالي والتسليحي، بقدْر ما أيقظت مشاهد سيطرة عناصر «فاغنر» على مبانٍ رسمية في عدد من المناطق الروسية، من ضمنها مقر القيادة الجنوبية للجيش، في مقاطعة روستوف، الواقعة على الحدود الأوكرانية، أسوأ السيناريوات في مخيّلة البعض؛ إذ تنطلق من حجم الخطر الذي تحمله احتمالات وقوع الفوضى في دولة نووية كبرى، مثل روسيا، تلقى فيها أصداء المواجهة مع منظومة «الناتو» بزعامة الولايات المتحدة، تأييداً متزايداً.

بوتين بين لعبة التوازنات وصراع القمّة
مسار الأحداث المتسارعة، والمصحوب بتكهّنات لا تقلّ دراماتيكية، يفسّر على نحو جيّد مواقف العواصم الغربية، التي رَاوحت بين الترحيب والحذر حيال «انقلاب بريغوجين»، وسط تقديرات تفيد بأن الرئيس الروسي إنّما يدير لعبة سياسية، عن طريق بريغوجين، وبأن ما يتولّاه الأخير من توجيه انتقادات شديدة إلى بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين، لا يعدو كونه أحد أساليب الأول في التعامل الاستباقي مع الانعكاسات الداخلية السلبية لحرب أوكرانيا، وشكلاً من أشكال رعاية التوازنات بين الأجنحة المتصارعة في كنف نظامه، ولا سيما أن الحكومة الروسية تسيطر على هامش واسع من الفضاء العام. وتحضر في هذا السياق، تصريحات بريغوجين خلال الأشهر الأخيرة، والتي شكّلت مادة دسمة في الإعلام الغربي للخوض في تكهّنات حول الواقع السياسي داخل روسيا، مع أن هذا الإعلام قابل التصريحات الناقدة للقيادة العسكرية، بشيء من التشكيك، ووضَعها في سياق «لعبة تقاذف الاتهامات» بين «فاغنر»، وقادة الجيش النظامي، تحت أعين بوتين، وربّما بإشراف شخصي منه، لتشتيت الرأي العام حول المسؤولية عن انتكاسات القوات الروسية في الحرب مع كييف، وإقناع شعبه بضرورة المضي في الحرب ضدّ «التهديد الخارجي».
في المقابل، ثمّة مَن يميل إلى تبنّي فرضيّة وجود خلافات حقيقية، ليست بهامشية، بين بوتين و«صديقه القديم»؛ حتى إن صحيفة «واشنطن بوست» أَفردت صفحاتها، الشهر الماضي، للحديث عن تواصل مزعوم جرى بين بريغوجين وقيادة الجيش الأوكراني (وهي اتّهامات نفاها الأخير)، مشيرةً إلى أن الرجل عرض تقديم إحداثيات بعض مواقع القوات الروسية لحكومة زيلينسكي. توازياً، أشارت مصادر دبلوماسية أميركية، إلى حالة من الغضب اعترت بوتين في الآونة الأخيرة بسبب تهجّم بريغوجين المستمرّ على قادة الجيش، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، كاشفةً عن دعوته كليهما إلى حضور اجتماع، خلال شهر شباط الماضي، بهدف تقريب وجهات النظر بينهما، مع حلول الذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية – الأوكرانية. ولم يطل الأمر بعدها، حتى عاد الرجل إلى عادته، من بوابة الشكوى من افتقار قواته للذخائر، مهدّداً بسحب عناصره من باخموت، قبل أن يتراجع عن مواقفه بزعم تلقّيه تأكيدات من قيادة الجيش بالاستجابة لطلباته. وتنقل صحيفة «نيويورك تايمز»، عن أحد رجال الأعمال الروس، قوله إنّه «إذا لم يتوقّف بريغوجين (عن انتقاد قيادييه)، فسوف يلقى مصير أليكسي نافالني في نهاية المطاف»، في إشارة إلى أحد أشرس المعارضين لحُكم بوتين، والذي تعرّض لمحاولة اغتيال بالسمّ عام 2020، عانى على إثرها من مضاعفات صحية حادّة.

الثابت أنّ انتصار قوات «فاغنر» في باخموت، لعب دوراً في تعزيز صورة بريغوجين في أنظار كل من القيادة السياسية والرأي العام، على رغم ما تلتقطه عدسات الكاميرا من تصرفاته المثيرة للاشمئزاز في ساحة الحرب، مِن مِثل تنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحقّ مقاتلين، تحت ذرائع شتى. ولشرح الأمر، يرى الأكاديمي الروسي، والمتخصّص في مجال العلوم السياسية، ديمتري أوريشكين، والمعروف بآرائه المناهضة لبوتين، أن نتائج معارك باخموت «أعطت بريغوجين تفويضاً سياسيّاً مطلقاً» من قِبَل بوتين. ويضيف أوريشكين أنّ هناك اتفاقاً ضمنيّاً بين الرجلَين يقوم على «السماح لبريغوجين بالقيام بكل ما يحلو له، كأن يؤذن له بمخالفة القوانين، وإحضار أناس من أماكن سجنهم من دون طلب أيّ إذن من الجهات المعنية، أو حتى قتلهم بلا داعٍ ووفقاً لمزاجيته بداعي تأديبهم، والحفاظ على الانضباط العسكري»، معقّباً بقوله: «في حال لم يكن بريغوجين قد تمكن من تحقيق هذا الانتصار، لكنّا شهدنا تقطيع أوصاله على أيدي النخبة الحاكمة التي دأب على انتقادها».

بريغوجين – شويغو: من يسرق «انتصارات» أوكرانيا ويرث إخفاقاتها؟
سجال بريغوجين – شويغو تتابعت فصوله في الأشهر الأخيرة، ولا سيما حين اتهم قائد مجموعة المرتزقة، الجيش الروسي، بالتراجع عن بعض النقاط على تخوم باخموت، والتخاذل في تزويد قواته بالذخائر، فضلاً عن الصراع بينهما في شأن «أُبوّة» التقدّم الروسي على جبهات الشرق الأوكراني أخيراً، ومحاولة كل منهما الإشادة بعناصره على حساب الشركاء الآخرين في ساحات المعارك. وبالخوض في خلفيات هذا السجال، يتوقّف محلّلون عند إقرار الحكومة الروسية سلسلة قوانين وتشريعات في القطاع الأمني خلال العام الماضي، وتحديداً ما يتعلّق منها بالسماح بتجنيد مساجين وأشخاص بميول وسجلّات جرمية، وهو أمر وجد فيه بريغوجين توجّهاً لدى القيادتَين السياسية والعسكرية للاستغناء عن أيّ دور عسكري لمجموعته مستقبلاً، وربّما انحيازاً من جانب بوتين إلى وزير دفاعه على حساب صديقه القديم. كذلك، أثار «التقريع العلني» من جانب بريغوجين لقيادة الجيش على خلفية حرب أوكرانيا، المحاطة بتعتيم إعلامي نسبياً، اهتمام الرأي العام، حتى إن الرجل المعروف بـ«طباخ بوتين» لم يوفّر رئيسه من سهام النقد، وإن بنبرة كلامية ملطّفة، وقد وصل حدّ التلميح إلى البحث عن بديل له، محذراً من «يوم يقرّر فيه الشعب الروسي حلّ أزمة (عدم كفاءة الجيش) بنفسه».

وعلى ما يبدو، فإن أصداء تلك الانتقادات بقيت تتفاعل في الخفاء إلى أن وقع «انقلاب حزيران» الذي لم تكتمل شروط نجاحه مع تدخل الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، على خطّ الوساطة بين زعيم الكرملين، وقائد «الميليشيا المتمرّدة»، التي بدا للوهلة الأولى من الساعات الماضية، وكأنّها شقّت عصا الطاعة لسيد الكرملين إلى الأبد. ولطالما مثّل تردُّد الكرملين الطويل في أن يَحمل على بريغوجين بشدّة، أو انتقاده بصورة مباشرة، حتى خلال الحركة الانقلابية الأخيرة، إحدى علامات الحظوة التي لا يزال يتمتّع بها الرجل لدى بوتين. فمن منظور بعض الدارسين للشأن الروسي، يمكن تفسير ضبابية الموقف الحقيقي للكرملين من «صانع أسطورة فاغنر»، هو إدراك بوتين أهميّة وجود صوت نقدي، وإن محدود، ومن داخل «النظام»، لمسار العملية العسكرية الخاصة الروسية على المسرح الأوكراني، يساعد في كشف وتقويم الأخطاء، فضلاً عن ضرورة مراعاة ترسيخ «دور بطولي» لبريغوجين في أعين مقاتليه، بما يعزّز هيبته وصورته القيادية، ولا سيما أن الأخير، يجد صعوبة في تجنيد المزيد من المتطوّعين، بعد الخسائر الفادحة التي منيت بها قواته في المعارك الدائرة مع قوات كييف، والمقدّرة بنحو 40 ألفاً، في وقت يحافظ فيه عناصرها على انتشارهم في عدد من نقاط المواجهة الساخنة على الخطوط الأمامية، وبصورة خاصة في باخموت، حيث ينتشر قرابة 10 آلاف منهم.

سجال بريغوجين – شويغو تتابعت فصوله في الأشهر الأخيرة حين اتّهم الأول الجيش بالتراجع في باخموت

ولعلّ الأمر يتعلّق بتباين الرؤى العسكرية والسياسية بين وزير الدفاع الروسي، وقائد قوات «فاغنر». فخلال مقابلة مصوّرة، تمّ التداول بها عبر موقع «تلغرام»، في أيار الماضي، دعا زعيم إحدى أهم الميليشيات الروسية غير النظامية، قيادة بلاده إلى تبني قرارات نوعية جريئة، وغير شعبية، على غرار الإعلان عن قرار جديد في شأن التعبئة العامة، معتبراً أنه «علينا الإعداد لحرب بالغة الصعوبة، سوف تسفر عن مئات الآلاف من الخسائر البشرية». وشدّد بريغوجين، في إطلالته الإعلامية وسط حالة من شبه المقاطعة لنشاطات الرجل في وسائل الإعلام الروسية، على أهميّة الاقتداء بالنموذج الكوري الشمالي في التطوير العسكري، داعياً الى تكريس الموارد المالية والبشرية للبلاد لرفد المجهود الحربي وصناعات الأسلحة. إضافة إلى ما تقدّم، أعرب بريغوجين عن عدم رغبته في توقيع عقود مع وزارة الدفاع، كأحد شروط اكتساب الوضعية القانونية لـ«فاغنر»، معلّلاً هذا بعدم رغبته في الخضوع لقيادة شويغو، التي لطالما شكّك فيها، مع تأكيده التزام مصالح بلاده وطاعته حصراً أوامرَ القائد الأعلى للقوات المسلحة، في إشارة إلى بوتين، قبل أن تأتي «الساعة الصفر» للتحرّك الانقلابي الأخير.

«السيناريو الأسوأ»
ومع انجلاء غبار واقعة التمرّد العسكري، الذي لم يسمح امتداده الزمني الوجيز لخصوم بوتين الداخليين والخارجيين، سواء في تسخيره لخدمة أجندات لإضعاف بوتين سياسيّاً، أو تسجيل انتصارات عسكرية ضدّه، بدءاً من الحدود الجنوبية الغربية لبلاده، فقد ذهبت جائزة البطولة السياسية إلى الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، بعد نجاح عرضه باستضافة «قائد التمرّد» في بلاده، وإبقاء عناصر المجموعة على أراضي روسيا، وإخضاعها لإجراءات التقنين التي ينشدها شويغو. ومع ذلك، بقيت تبعات ما جرى تستحضر أسئلة شتّى، وما أكثرها. أمّا السؤال الأكثر إشكالية، فهو: ماذا لو لم تصمد الهدنة التي تمّ التوصّل إليها برعاية مينسك؟ بعد كل ما جرى، تطرح مجلة «ناشونال إنترست» جملة سيناريوات، أوّلها التزام طرفَي الصراع بالهدنة بصورة فورية ونهائية، على وقع ترقّب ما إذا كانت قد شملت تعهّداً من الرئيس الروسي بتنحية شويغو، في مقابل استئناف مقاتلي بريغوجين القتال على الجبهات. ثاني تلك السيناريوات، يحمل بذور العودة إلى مربّع التصعيد وقرار بوتين بتطويع قوات «فاغنر» كقوات غير نظامية تعمل بإمرته، أو دمجها في هيكلية القوات المسلّحة الروسية، فيما قد يحمل ثالثها، وهو احتمال مستبعد إلى حدّ بعيد، صراعاً على الرئاسة يحسمه بريغوجين. أما السيناريو الرابع، فهو «الأسوأ» بالنسبة إلى روسيا، إذ يعجّ باحتمالات «الحرب الأهلية الروسية الثانية»، وفق تعبير المجلّة الأميركية، وهو سيناريو سيرافقه تفجّر حالة واسعة من الاحتراب الأهلي في روسيا، بخاصة في الأقاليم التي تقطنها غالبيات إثنية أو دينية كالشيشان، وتتارستان، ومحاولة قوى خارجية مجاورة كالصين، استغلال الوضع لصالحها من أجل حسم بعض الخلافات الحدودية التاريخية مع روسيا لصالحها.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى