ثقافة

“يامّا” CIAO *:ماذا نخبر الجيل القادم؟(هدى سويد)

 

 

 هدى سويد ـ إيطاليا

 

يُغيّبنا ثقل الوقت، صمته ،

تتحول البلاد إلى صور تتلاشى بلا شكل ، بلا صوت. 

هكذا زائغة في الفضاء.. وهكذا تزوغ أمام أعيننا أشكال بلا صوت، شبيهة بمشهد لانهيار ثلج أو عاصفة رمل ، مأخوذ من فيلم تعرض لعطل تقني .

إنّها الأيام الأطول للعام  “يامّا” ، أيام بدأت منذ حين مع مطلع الصيف ،

لذا عليك بالصبر المضاعف، بالمثابرة على الصمود، العزة والإيمان والقدرية، وأعلم أنّ ما من مصرف لهذا الكلام.

إنها الأيام الأطول لهذا العام  “يامّا”،

ماذا بوسعه القول قوله؟

لا مصرف للكلام!

مرحبا  “يامّا” .

تعلمنا منكم الكثير ما لم تعلمنا المدارس ولا الحياة ولا ما في جعبتنا من تجارب وفلسفات وحكم .

نتعلم منكم ولسنا قادرين ،

تستمرون، تتضاءل أرقامكم أمام وحشية لا نظير لها ، يوما إثر يوم ولحظة إثر لحظة ، هكذا يريدون معتمدين حسابات الطرح والقسمة .

تستمرون ونحن نشهد استمراركم، انتصارات بقائكم ، انتصارات موتكم ، رحيلكم ونزوحكم من مربع إلى مربع ، من قطعة ومن شبر أرض ، إلى شبر ورقعة قريبة .

تستمرون ونحن نشهد جوعكم ، صمتكم ، موتكم ، أنينكم إزاء انهيار، قصف ومحو أماكنكم ، بيوتكم ، خيمكم .

تستمرون بامتياز لا وقت لديكم للبكاء والنحيب ، للثرثرة والحوار، 

من بقي شاهدا يتفانى ركضا لجمع أشلاء لا يعرفها ، أو وجع مصاب أو جثة وديعة  لقريب .

تستمرون في الدفن والشهادة ، لا وقت للأمس والحلم ، الراحة والسكينة ، ولا لطبق يجمع الأحبة ، ولا لكرة تلهو بها أقدام الصبيان، ولا لنبتة تكبر ، تحنو عليها أصابع صبية. لا وقت لقراءة جريدة ومعرفة ما يحصل ، أو لنسمة تلفح وجه فلاّح أو موجة تصطاد برذاذها جسد صيّاد .

البحر جميل  “يامّا”.

تستمرون ، تحلّقون وفي جيب القلب حلم الأرض ، الثقة بالغد وبالحق ،

تستمرون ، تدافعون هكذا عراة برداء ونعال نخرها الغبار عن مغزى الحياة ،

رداء ونعال لا يقيان البرد ولا الحر ، إنها رداءات ونعال الكبرياء ، الواثقون بالمصيرـ الغد والحق، لأنكم تعلمون أن الخوذات ، الأحذية وجهوزية البدلات العسكرية المهفّفة لا تسترجع أو تدافع عن الأرض.

تهرولون حفاة يسكنكم الحلم والوجع .

تستمرون أمام الجحافل البربريّة العطشى للدم ، الإبادة ، الإستباحة ، الحرق ، الردم والركام ، بينما الضمير العالمي هناك في مزابله .

***

كنا قد سمعنا عن الحروب والتهجير وعمّن بقوا على قيد الحياة ، رواها لنا الأهل وكتب التاريخ ومصادره المختلفة ، سمعنا عن ذاك العام 1948 وما تلاه .

 لكنّنا اليوم أمام ما يحصل نحن الشهود.

هل يكفي ؟ هل يكفينا أننا نشهد ولا نقدر ؟

هل يكفينا أن نراقب وننظر ونحلل ولا نقدر ؟

أن نرى كيف يتم المسح الأفقي للناس ، البيوت والأمكنة ولا نقدر ؟

 وأن الأرض لم تعد دائرية ؟

لماذا يأكل أولئك الوصاة على الكرة الأرضية، يأكلون وينفخون البطون ، ينامون ويصحون على رائحة القهوة والحليب ، يتقاسمون الخبز والحلوى ، يقهقون ، يتسامرون يتابعون نشرات الأخبار ولا يرف لهم جفن ، بينما في الرقعة المسيّجة المصلوبة بالشوك أهل لنا  “يامّا” ينحلهم الجوع ويفرقهم القصف أشتاتا ؟

في المساحة والمكان نفسه، في الزقاق والشارع عينه يفقد الطفل والديه والأب ابنته ، المرأة رجلها والرفيق رفيقة دربه وعمره ،الطبيب عائلته بأسرها والمصور والصحافي الصورة والقلم ؟

لماذا الغبن هذا  “يامّا” ؟

لماذا يعيش الوصاة وينتفخون دون حق،  بينما لا يغفو أناس من أزيز الرصاص وانفجار القنابل ، يتنشقون السرطان والأمراض المستعصية ، القهر والغضب ؟

هل يكفينا أننا شهودا  “يامّا”؟

نحن لا نواكب التهجير والنازحين ، نواكب المسح الكلي  “يامّا” ولا نقدر..

اليوم نشهد أننا رأينا بأم العين وغدا سنخبر الجيل القادم كما أخبرنا الأهل الأجداد بأننا كنا نشهد ولم نقدر  “يامّا” !

اليوم نشهد أننا رأينا بأم العين ولم نفعل شيئا ،

لم نسع على الأقل أن نمسح دمعة طفل وغصة أب وحرقة أم ،

أن نعيد الأطفال إلى أسرتهم ، نغطيهم كي يغفوا ، أو نجمع أقلامهم الملونة التي تطايرت مع الأجساد ، نعيدها إليهم كي يخرطشوا ويدونوا ما يحصل .

اليوم نشهد أننا تركنا هناك بلدا وحيدا وأهلا لنا في دائرة شاهقة بسياج الموت والقهروالوحدة ،

اليوم نشهد أن لا أمل لهم بنا ، يكفيهم رفع رأسهم كي يروا الله .

كم أنتم قريبون وكم ابتعدنا نحن  “يامّا” !

قريبون من المجازر ونحن بعيدون نبتهل ونتضرع ،أو نسعى للنسيان .

قريبة خيمكم من ملح البحر ونحن بعيدون نذوب في ملحنا وخجلنا .

تعلمنا منكم كيف أصبحنا بلا معنى ولا نعرف وجوهنا في المرآة .

عاجزون لا حيلة لنا ، في داخلنا فراغ  وفي عيوننا رماد .

أنتم الخرافة ونحن ماريونيت ، ننصاع للحبال .

اليوم نشهد ولا نقدر ، لكنّا نغص ولا نلتذ بتزييف الأيام ولا بالانتظار .

مرحبا ، أهلا   “يامّا”.

 

* Ciao هي عبارة إيطالية تعني أهلا أو مرحبا ، استخدمت للتعبير عن الفرح بقدوم المقاومة ، تمت ترجمتها للغات عدة تحمل عنوان : أهلا أيتها الجميلة

Bella Ciao

هنا استعيضت كلمة الجميلة بكلمة أم حسب اللفظ الفلسطيني( “يامّا”)، تعني أم وتعني فلسطين.  

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى