العالم العربيسياسة

المســـــألة الشــــيعيَّة فـــي العـــراق ولبنـــــان

 


نظير جاهل* – يوســــف كلوت*- الحوارنيوز خاص

أعد الباحثان الدكتور نظير جاهل والدكتور يوسف كلوت بحثا عن المسألة الشيعية في العراق  ولبنان رصدت التطورات التي تشهدها الساحتين، وقسمت الدراسة الى عدة عناوين هي:- الإنتفاضة الوطنية العراقية وفك “التوازن السلبي” الدولي الإقليمي – نموذج المرجعية الدينية العليا في النجف: “ولاية الشعب على نفسه” والنصية  – بين النموذج الوطني العراقي والمسألة الشيعية في لبنـان – ســـــقوط  سوريا واستحالة الإبقاء على “التوازن السلبي” في العراق ولبنــان.
تنشر “الحوارنيوز” الدراسة كاملة منعا لأي تجزئة قد تسقط المعنى والقصد.
الدراسة:
  “تُثبت الانتفاضـــة الشـــعبية في العـــراق التي تتجدد الآن رغم جائحة كورونا أن الشـــعب بمـــا فيـــــه المجتمــع الأهلي – السياسي خاصة قادر حين يسترشد بخط “التوحيد” الذي تمثِّله المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، قادرٌ بطوائفه وعشائره وقواه أن يتخطَّى التمذهُب والاقتتال والتفكُّك، وأن يتوحَّد من خلال إنتفاضة شعبية، لا على الدين والتراث، بل في الدين والتراث، إنتفاضةٌ وطنيةٌ تصلُ إلى تبنٍ تأصيليٍّ فريدٍ ملائمٍ للحداثة السياسية القائمة على المواطنية والحقوق والتمثيل النيابي الحقيقي بمواجهة الاستبداد وما ماثله والنفوذ المُهيمن اللاهث وراء التقاسم في طي السيطرة الأميركية – الغربية الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
وبالفعل يتبيَّن في ضوء خطب المرجع الديني الأعلى سماحة السيد علي السيستاني أن هذه الانتفاضة الشعبية الحالية في العراق تنطلق من “نموذج توحيدي” جامع، وهو ما شكَّل شرطاً أساسياً أسهم إسهاماً حاسماً في تحوُّلها إلى قوة صاعدة تتصدَّى في آن واحدٍ، للمسألة الوطنية في مواجهة “التوازن السلبي” المفروض على العراق إقليمياً ودولياً في سياق استتباعه وشلِّه وطمس هويته الوطنية والعربية، وللمسألة الإصلاحية السياسية والاقتصادية في مواجهة الاستبداد وما مائله وفي مواجهة النهب والاستتباع والارتهان للخارج على تنوّعه.
ونعنــي بـ “التوازن السلبي” هنا إبقاء العراق ولبنان كيانين متخلِّعين يتأرجحان بين الانهيار والتفكُّك من جهة، وبين التوحُّد بدولة شكلية تقوم على توازنات الإفساد والفساد والنهب من جهة ثانية، وهو ما ضرب فيهما إمكانية قيام دولة وطنية رعائية مستقلة.
الإنتفاضة الوطنية العراقية وفك “التوازن السلبي” الدولي الإقليمي
  يقـــوم “النموذج المرجعي التوحيدي” على اعتبار أن “الشعب معطى وطني واقعي”. هذا الشعب الذي أُفقِدَ هويَّته حين دُفع به في سياق اقتتال مدمِّر متشابك داخلياً وإقليماً ودولياً إلى صراع أهلي مذهبي دموي أفضى إلى التشرذم والتفكُّك والتذرّر، فإنه اليوم يخرج عن هذا المسار لكن ليس بالتخلِّي عن “النموذج التاريخي المرجعي التوحيدي” وبتجريم المذاهب والطوائف الدينية وازدراء العلاقات الأهلية العشائرية بالاستناد إلى نموذج مثالي غربي حديث بالمعنى القانوني الذي يُعبِّر عنه مفهوما “المجتمع السياسي” و”المجتمع المدني”، بل بفعل طاقة ودفع العناصر التوحيدية للـ “نموذج التاريخي المرجعي”، وهي العناصر التي استبطنها بمعادلةٍ تجمع في آن واحد بين المثالية الشديدة والواقعية التغييرية الفعَّالة التي نعني بها لحظ الواقع أثناء عملية التغيير دون الانضباط بشروطه ومعادلاته الكابحة. وقد سمحت هذه الطاقة التوحيدية بالتفلُّت من النفوذ الذي حوَّل العراق إلى بلد قائــمٍ على “التوازن السلبي”، وهــــــو التفلُّت الذي يُترجـــم الآن مــواجهـــة بنائيـــة يخوضــها الشــــــعب العراقي بتضحيات كبيــرة مــــع المعادلات الإقليميــــة الدوليـــــة الاســـــتتباعيــة الكابحة وامتداداتها في الاســـــتبداد والإفســــاد الداخلي في آن واحد.
فقد كان “التوازن السلبي” – المشار إليه – صناعة استراتيجية للقوى الإقليمة والدولية بعد احتلال العراق في العام 2003، صناعةٌ سمحت لهم ببسط نفوذهم التشاركي على العراق، إذ ما حصل منذ العام 2003 إنما كان تقاطع دولي إقليمي أسقط الدولة القطرية ولم يبنِ دولة وطنية مستقلة رعائية عادلة جامعة لعناصر المجتمع الأهلي- السياسي العراقي، والوقائع اللاحقة أظهرت أن الحسابات الإقليمية لهذا التقاطع لم تكن لتوحيد المنطقة العربية الإسلامية، وهو ما تبيَّن مما نتج عنها من قذفٍ للمجتمع العراقي والمنطقة عموماً باتجاه العيش في ظل اللادولة و”التوازن السلبي”، وهو ما سهَّل الانحدار إلى التمذهب واستجلاب الصيغة الداعشية المذهبية الناتجة في بُعدٍ أساسي منها عن تدخل الأجهزة الاستخباراتية التي استثمرت الإحباط التاريخي المتولِّد من انهيار التاريخ الإسلامي بدءاً من الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى الآن. وقد استُكمِل منطق هذا “التوازن السلبي” في كل من لبنان وسوريا، وهو توازن كسَّر حدود سايكس – بيكو، لكن ليس باتِّجاه التوحُّد على أرضية التحرُّر من التبعية، بل باتِّجاه مزيد من التفكيك والتجزيء والتذرير على أرضية هذه التبعية، ذلك لأن المس الذي تمَّ ويتمّ بالدول الوطنية العربية التي قامت ما بعد الحرب العالمية الثانية هو مسٌ دون أفق توحيدي تحرُّري حقيقي. إن الدول الوطنية التي يعمل هذا “التوازن السلبي” على تفكيكها بأفق مزيد من النفـــــوذ الموهـــــوم كانت قــــد مثَّلت بمعنى مــــــا توازناً تســــــوويًّا بين مـــا تبقَّــــى مـــــن طاقات وديناميات واقعيـــــة للمجتمـــــع الأهلي بطوائفـــــه وعشـــائره وعلاقاتـــــه العائليـــــة وبين الســــيطرة والهيمنـــــة الغربيــــة، توازناً ظهــــر – على سبيل المثال لا الحصر – بشكل اســــتقلالي تحرريٍّ رعائي بنَّـــاء في التجربة الناصريــة في مصر وأيضاً في التجربة الشـــهابية في لبنـــان.
إن الانتفاضـــة الشـــعبية في العراق هــــي محاولــــة لاســـتعادة الدولــــة الوطنيـــــة بعـــــد أن تبيَّن أن صيغــــة “التـــــوازن السلبي” المفروضة إقليمياً ودولياً قد أوصلت المجتمع العراقي إلى الشلل والانهيار، علماً أنها صيغته قد بدأت بالتعثُّر مع الانهيار السوري وباتت تتطلب المزيد من القهر والعنف كي تستطيع تحويل مواقع النفوذ إلى أرصدة تصرف في مساومات موهومة! وبغض النظر عن ما واجهته هذه الانتفاضة الوطنية العراقية من قهر وقمع وقنص وقتل ومحاولات اتّهام وتخوين وإجهاض أو استغلال واستثمار من قوى “التوازن السلبي” الإقليمية والدوليــة، فإنها ما تزال حيَّة، وهي تستعيد ديناميتها اليوم متحدِّية الظروف القاهرة التي فرضها انتشار جائحة “كورونا”. وهي تقدِّم بلحاظ حدود الواقع أي في ظل ما وصلت إليه المنطقة من انهيار، نموذجاً وطنياً بنائياً استقلالياً فعالاً ذاتي القـــوة والدفـــع في محاولــةِ لمــواجهــة موازين القــوى المدمِّرة المفروضــة على العراق وأهله. ولا يبدو – والحالة هذه – أن اللجوء إلى الضربات الصاروخية المحدودة على المواقع المشتركة بين الاحتلال الأميركي والجيش العراقي التي تشكلت وفقاً لصيغة الاتفاقية العراقية – الأميركية التي أُقرَّت إبان رئاسة “نوري المالكي” لمجلس الوزراء، وكذلك رفع شعار طرد الوجود الأميركي من المنطقة، يُفيد في إبقاء الإدارة الأميركية مشدودة إلى الحقل القائم على “التوازن السلبي” في محاولة لإحباط الانتفاضة الشعبية وخط الراهن للمرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف سماحة السيد علي السيستاني، وذلك بعد أن باتت الإدارة الأميركية تتَّجه إلى كسر هذا التوازن، وهو ما تأكَّد أكثــــــر بعد الضربات الأميركية المروِّعة لقوات من الحشد الشعبي قبل وبعد اغتيال الجنرال قاسم سليمان على أثر ضربات صاروخية على المواقع المشتركة بين الجيش العراقي والأميركان. وقــــد رفضت المرجعية الدينيـــــــة العليا في النجف الأشرف الاســـــــتمرار بتحويل العراق إلى ســـــــاحة في بيانها الصادر بتاريخ  30/12/2019 على أثر القصف الأميركي لقوات من الحشد الشعبي في منطقة القائم بين العراق وسوريا بعد قصف صاروخي لموقع مشترك بين الجيشي العراقي والأميركيين، مرسِّخة وجهتها الوطنية التي تدفـــــع نحــــو الخــــــــروج من الحقل الأميركي الإيراني القائــــــــم على “التــــــوازن السلبي”، حيث جاء في البيان ما حرفيَّته: “إن المرجعية الدينية العليا إذ تدين الاعتداء الآثم الذي استهدف جمعاً من المقاتلين المنضوين في القوات العراقية الرسمية وأدَّى إلى استشهاد وجرح عدد كبير منهم، فإنها تشدّد على ضرورة احتـــرام الســــيادة العراقيــــة وعدم خرقها بذريعة الردّ على ممارسات غير قانونية تقوم بها بعض الأطراف. إن السلطات الرسمية العراقية هي وحدها المعنية بالتعامل مع تلك الممارســــات واتّخاذ الإجراءات الكفيلة بمنعـــــها، وهي مدعوّة إلى ذلك وإلى العمل على عدم جعـــــــل العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليميــــة والدولية وتدخل الآخرين في شؤونه الداخلية” إنتهى بيان المرجعيــة.
فمهما كانت أسباب المواجهة مع الاحتلال الأميركي للعراق يبقى الاحتلال إحتلالاً ومواجهته تبقى مشروعة، غير أن المناكفة العسكرية الصاروخية المحدودة معه لا تبدو قابلة للاستخدام لإرجاع العراق إلى مجرد ساحة دولية إقليمية من خلال إعادة تنشيط صيغة “التوازن السلبي” وحقل النفوذ مع الطرف الأميركي الذي بات لا يتقيَّد بلعبة الساحة وحدودها. فالانتفاضــــة الشــــعبية الوطنيــــة في العراق وضعت عمليـــاً صيغــــة الســــاحة و”التوازن السلبي” على بساط البحث لا بل تجاوزتهما، وهذا ما يتَّضح من موقف المنتفضين والمرجعية الدينية العليا وقوى أهلية وسياسية ووطنية عديدة. فكما يبدو أنّه لم يعُد ممكناً للنفوذ الإيراني، بعنوان مواجهة الأميركان، حماية البنى السياسية والحكومية والاقتصادية المُستتبعة للنفوذ الأميركي وقمع من يرفضها ويحاول تغييرها وضرب فسادها وإفسادها، بغية الحفاظ على “التوازن السلبي” وفي طيِّه صيغة الساحة والأوراق والأذرع والنفوذ.
ليس صحيحاً أنً الإنتفاضة الشعبية قد أُجهضت في العراق، وليس صحيحاً أن تكليف رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي برئاسة الحكومة العراقية يؤشّر على إجهاض هذه الإنتفاضة. إذ من غير الممكن تعيين دلالة هذا التكليف تأسيساً على ميول الرجل غير الواضحة التي تبدَّلت بتبدُّل الظروف وموازين القوى التي شهدتها الساحة العراقية في ظل “التوازن السلبي” الأميركي الإيراني، وذلك نظراً لموقعه ومهامه الأمنية الاستخباراتية. فلا يُمكن البت إستناداً إلى سيرته الشخصية بكون التكليف أو التأليف نجاحاً إيرانياً أو بالمقابل استكمالاً للهيمنة الأميركية أو كتعبير عن توازن جديد أميركي إيراني.
فالأصح هو الرجوع إلى السياق السياسي الذي أدَّى إلى بروز دور جهاز المخابرات، حيث يدل هذا البروز  على اهتلاك القوى السياسية واختلال دورها سواءً في مواجهتها للإنتفاضة الوطنية الشعبية المظلَّلة بخط المرجعية النجفية العليا الراهن، أو في عدم الإستجابة لها أو الإرتباك في التعامل معها الذي طبع مواقف وسلوك التيار الصدري. هذا ويُمكن الاستدلال على هذا الاهتلاك للقوى السياسية من الأزمة الوزارية المديدة، حيث اصطدمت هذه القوى بشروط المرجعية التي تتلخَّص بمعيار “الشخصية غير الجدلية” لرئاسة الحكومة الذي حملته الإنتفاضة الشعبية ودافع عنه شهاداؤها وجرحاها. وهو ما يؤشِّر أيضاً على أنَّ مرحلة ما بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني مختلفة تماماً عما قبلها. فقد أتى هذا الإغتيال ليختتم مرحلة “التوازن السلبي” الأميركي الإيراني الذي حوّل العراق إلى ساحة نفوذ على شفير الانهيار، بحيث لا يتفكَّك ولا يُستعاد كوطن كما أشرنا في تعريفنا لمفهوم “التوازن السلبي” في بداية المقال. أصبح من المستحيل على السلطة الإيرانية أن تحافظ على موقعها في طي هذا “التوازن السلبي” الذي تحكَّمت الهيمنة الأميركية بنشوئه وصيرورته، غير أن هذا لا يعني بالطبع أنّ النفوذ الإيراني قد انتهى في العراق، بل أصبح في سياق تراجعي سريع والمواقع السلطوية التي كانت تعبِّر عنه باتت أُطُر  ضبطٍ له تحكمها الوجهة الأميركية. فكما هي الحال في لبنان حيث أن إمساك حزب المقاومة الإسلامية بالحكومة ليس إلا  شكلاً برَّانياً ظاهرياً يُخفي عدم إمساكه بالعملية السياسية في ظل المأزق الكياني غير المسبوق الذي يُشارك فيه، فكذلك  فإنّ مشاركة فصائل الحشد الشعبي التي تُسمَّى “ولائية” في وزارة مصطفى الكاظمي تُخفي تدني وزن النفوذ الإيراني في ما تعتبره السلطة الإيرانية “ساحة عراقية” وفي الوقت نفسه تعبر عن تزايد الغلبة الأميركية، ولكنها أيضاً تُعبِّر عن تراجع معادلة الساحة بعد أن بلغت الإنتفاضة الشعبية المتناغمة مع وجهة المرجعية النجفية العليا الراهنة تأثيراً لا يمكن تجاوزه. كما أنه لا يمكن البت بايقاعات هذه الإنتفاضة في مواجهتها لرئيس الوزراء المكلف (مصطفى الكاظمي) ولمصير وزارته.
هذا ويأتي في سياق تراجع معادلة الساحة القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبد المهدي استجابة لوجهة المرجعية الدينية العليا في النجف والقاضي برط الألوية التابعة للعتبات المقدسة إدارياً وعملياتياً بالقائد العام للقوات المسلحة أي رئيس الوزراء، وهو ما يعني وضع هذه الألوية في سياق يعزِّز الجيش الوطني العراقي وسحبها من إمرة قيادة الحشد التابعة للسلطة الإيرانية. وكذلك ياتي في السياق نفسه البيان الذي صدر عن قيادات حشد المرجعية التي أعلنت فيه مغادرة هيئة الحشد الشعبي بالإضافة إلى نقاط هامة عدة نذكر منها ما يلي:
– بيَّنت أنها تدرس انضمام بقية القوات والألوية الراغبة بذلك على وفق: المعايير الوطنية، والضوابط القانونية، والالتزامات الدستورية.
– أكّدت أنّها تسير وفق الرؤى الوطنية وما تقتضيه طبيعة الأوضاع في العراق، وأنها تسعى لتصحيح بعض المسارات، والمحافظة على المشروع المبارك الذي حمل حسام الدفاع عن العراقيين (أرضًا وشعبا ومقدسات)، مستجيبين لنداء الحق والحكمة والإنسانية الذي أطلقه المرجع الدينيّ الأعلى السيد على الحسينيّ السيستانيّ دام ظله الوارف.
– أكّدت أنّ كلّ إجراءاتها تمت برعاية ومتابعة من فخامة رئيس الجمهورية السيد برهم صالح، والسيد القائد العام للقوات المسلحة الدكتور عادل عبد المهدي، وبعض القيادات الأمنية والرسمية، فضلًا عن وكيلَيْ المرجعيّة الدينيّة العليا سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي و سماحة السيد أحمد الصافي، متعهدةً لشعبنا الكريم وقواه الفاعلة على بناء مؤسسة امنية وخدمية تنهض بأعباء الأمانة التاريخية والمسؤولية الوطنية والعهدة الشرعية تجاه البلد لتقديم أنموذج صالح للخدمة والدفاع.
إن قرار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وكذلك بيان قيادات حشد المرجعية يعنيان الآن أن المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف تعمل للحؤول دون أن يصب تصدُّع الحشد الشعبي الذي استُخدِم بالدلس للتعبير عن التوازن الإيراني مع الطرف الأميركي في العراق، في مزيد من التحكُّم الأميركي بالعراق ومصيره كوطن. علماً أن الحشــد الشعبي كان قد تأسس برمَّته بفتوى المرجع الأعلى سماحة السيد علي السيستاني التي جعلته مُكملاً للجيش الوطني العراقي وبأفق الإنخراط فيه بعد القضاء على إرهاب داعش.
نموذج المرجعية الدينية العليا في النجف: “ولاية الشعب على نفسه” والنصيحة
  تلعب المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف سماحة السيد علي السيستاني بالتكامل مع الانتفاضة الوطنية العراقية الحالية بكل ما فيها من قوى وطنية وأهلية دوراً مركزياً في إيقاف تفكُّك المجتمع الأهلي العراقي وفي تحوُّله إلى قوة شعبية ضاغطة فعَّالة. ويتأسس هذا الدور على استعادة المرجعية لمرتكزين تقليدين جرى تعطيلهما بداية من قبل الدولة القطرية العراقية وأيضاً بعد سقوطها في العام 2003 من خلال تحويل العراق إلى ساحة خاضعة لآليات التجزيء والتذرير و”التوازن السلبي” الدولي الإقليمي. يتمثَّل المرتكز الأول بتعامل المرجعية مع الشعب بما هو سيد نفسه، وهو مبدأ يتفرَّع عن مبدأ “ولاية الأمة على نفسها” الذي ورد من قبل ضمناً في ممارسة فعلية ونظرية عند كل من الإمام السيد موسى الصدر والمرجع السيد محمد باقر الصدر، وكذلك ورد تنظيراً فقهياً علنياً متعمقاً وممارسة فعليَّة عند العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين. ويتمثل المرتكز الثاني بوعي المرجعية لموقعها ودورها كوسيط غير محايد بين الدولة والسلطة من جهة والشعب من جهة ثانية. وسيطٌ منحاز للناس يدفع للحد من سيطرة السلطة واستبدادها وتألُّهها، ويحمي المجتمع الأهلي ويُحيط به لتمكينـــــه من التشكُّل كوحدة شـــــعبية واقعيـــــة تتكاتف وتتقدَّم بالالتفاف حـــــول قياداتها الشـــرعية التاريخية، وأيضاً يُعيــــــد صياغــــة التمثيل الشـــــــعبي من خلال تكييف النمـــــوذج الغربي الحديث على مقتضيات الإمســــــاك بالقرار الوطني الذاتي. 
مــــــا يُميِّز نمـــــــــوذج المرجعيــــــة الدينيــــــة العليا في النجف الأشــــــرف، كمـــــــا تُقدِّم نفســــها بالخطب والممارسة، هو تأسيسها لمفهــــــوم الشعب كجماعة ودينامية يصــــــل إليها المجتمــــــع الأهلي من خلال إعادة تشـــــكُّل مكوناتــــــه الطائفية والمذهبيــــــة والعرقيــــــة بالتكامل وليــــــس بالتفكيك والتذرير وإعادة التركيب وفقـــــــاً للصيـــــغ الســــلطويـــة الاستبدادية التقليدية والاستبدادية الحديثــــة. ومـــــــــا يحوِّل المرجعية النجفية إلى قوة دافعة بهذا الاتجاه يكمن في استبدالها لمبــــــدأ “ولاية الأمر والطاعة” في الشــــــؤون العامــــــــة بمبـــدأ “ولاية الشعب على نفسه” ومفاهيــــــــم الحرية والنصيحة والإرشاد، وهــــو ما ورد حرفيـــاً على التوالي في خطبتي الجمعــة في 15/11/2019 والجمعــة في 29/11/2019:
– “إنّ الحكومة إنما تستمد شرعيتهاـ في غير النظم الاستبدادية وما ماثلهاـ من الشعب، وليس هناك من يمنحها الشرعية غيره، …”.  الجمعة 15/11/2019
– “إنّ المرجعيـــــة الدينية ســـــــــتبقى ســـــــنداً للشــــعب العراقي الكريــــــم، وليـــــس لهــــــا إلاّ النصــــح والارشــــــاد إلى مــــــا ترى أنه في مصلحـــــة الشــــعب، ويبقى للشعب أن يختار ما يرتئي أنه الأصلح لحاضره ومستقبله بلا وصاية لأحد عليه”.  الجمعة 29/11/2019
ولهذا الاستبدال على بساطته الظاهرة أثر إنقلابي على مكونات الحقل السياسي. إنه يؤدي بصورة مباشرة إلى تفريغ وضرب مبدأ الطاعة السلطوي، الذي يتوسَّل شرعية فقهية قابضة، تُسهِّل عملية شل ديناميات المجتمع الأهلي وتقنين قوته بأشكال جهازية قابلة للاستخدام في حقل النفوذ الإقليمي المفتوح. كما أنه يؤدي أيضاً وبالموازاة إلى تعطيل مبدأ الولاء للزعامة الأهلية العشائرية أو الطائفية الذي يستنزف طاقة المجتمع الأهلي بالاستتباع المتعدِّد الاستخدامات الداخلية والخارجية.
إن وجهـــــة المرجعيـــــــة الدينيـــــــة العليا في النجف الأشرف هي وجهـــــــة مختلفــــة تماماً عن تلك الوجهـــــــة العمليـــــة المعاشة التي أرستها السلطة الإيرانية في التعامل مع دول المنطقة العربية على أنها ساحات فارغة تملؤها بـ “التوازن السلبي”، وكانت هذه السلطة قد دخلت بداية إلى الدول العربية من خلال دعم جماعات أهلية في صراع وطني محق ضد العدو الإسرائيلي في الأصل وضد الجماعات التكفيرية لاحقاً، لكنها بعد ذلك وفي خِضَمِّه عملـــــت على ملء الفراغ الذي افترضتـــــه، بتحــــــويل الجماعات الأهليــــــة التي دعمتها إلى أجهزة ذات أدوار إقليمية وظائفية مندرجـــــة في حقـــــــــــــل “التوازن السلبي” مع  النفـــــــــــوذ الأميركي الدولي، وهــــــــــو ما أدَّى إلى حرف الصراع الوطني داخل هذه الدول عن مهمــــــــة استرجاع الذات الوطنيــــــــــــة المســــــــــتقلة المنفتحة على العالم العربي والإسلامي بما فيه إيران بصـــــورة خاصة، إلى إدخال الجماعات الأهليــــــة – المُشار إليها – إلى  أجهزة مندرجــــــة في حقــــــــل “التوازن السلبي” مـــــــــــع  النفـــــــــــوذ الأميركي الدولي. هــــــــذا وقد دفــــــع “التوازن السلبي”  المذكور باتِّجاه تفكيك وإضعاف الحدود القديمة بين الأقطار والكيانات العربية، لا بوجهة وحدودية، بل بوجهة تُبقي الحقــــــــل العربي رجراجاً متأرجحاً بين وجــــــود الدولــــــــة الوطنيـــــــة وبين لا وجـــــودها، وفـــــي الوقت نفســـــــه يُمعن في دفــــــع التوازنات الداخليــــة الأهليـــــــة في الدول العربيـــــــة إلى مزيد من الاختلال في ســــــياق ديناميات التخلُّع الناتجة عن التبعية الاقتصاديـة والسياسية لمراكز السيطرة العالمية.
ولذلك يُعدُّ من التجنِّي القول إن مواجهة هذا “التوازن السلبي” بغية استعادة الدولة الوطنية في العراق تصب في مصلحة النفوذ الأميركي، بل إن الأمر على العكس تماماً. فصحيح أن استرجاع صيغة الدولة الوطنية القطرية في العراق وحتى الدولة الوطنية الكيانية في لبنان تُضعف النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، وهــــــو نفوذ فقد أصلاً القدرة على الاســــــتمرار بعـــــــد الانهيار السوري، وصحيـــــــح أنها تُضعف النفوذ الروسي وهـــــــو ما يفيد الأميركان من هذه الحيثيـــــة، إلا أنها تؤمن هامشاً استقلالياً بنائياً رعائياً للداخل العراقي وحتى اللبناني، هامش يُضعف موضـــــوعياً وذاتيــــــاً الســـــيطرة الأميركية والعــــــدو الإسرائيلي من حيث اســـتعادة العراق ولبنان لكينونتهما الوطنيـة.
ممـــــا لا شـــــك فيــــــه أن إيران لعبت دوراً فـــــي القضاء على التمــــــدَّد الداعشـــــي المدمَّر، وهو مـــــــا كان يُفترض أن يؤدي إلى نشـــــــوء حقــــــــل تـــوازن إيجابي إيراني عراقي يُضعف النفــــــــوذ الأميركي وينقــــــل العراق من وضعيــــــة الســـــــاحة إلى صيغــــــة الوطـــــــن، إلا أن ما جعــــــل هذا الأفق مغلقاً كما يبـــــدو، هــــــو التشــــخيص الإيراني لمســــــــار الانتفاضــــــة العراقيــــــة الوطنيـــــــة كاختلال أمنـــــي والتعامل معـــــــــه بالتخوين والقمـــــع، وكأنمــــــا على المجتمــــــع العراقي المقهــــــور أن يبقــــــى – في آن واحــــد – مســــــلوب الهويــــــــة ورازحاً تحت وطأة النهــــب والفســـــاد والإفســـــاد والقهر الأميركي والاســـــتبداد الداخلـــي المســـــتجد ليظل آداةً للتفاوض في حقــــل النفوذ الإقليمي الدولي.
بين النموذج الوطني العراقي والمسألة الشيعية في لبنـــان
  يكشف حضور النموذج الوطني الذي تطرحه المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف الآثار التفكيكية للنموذج المحوري الذي تمارسه السلطة الايرانية على الصعيد الإقليمي بعنوان الصراع مع العدو الإسرائيلي والهيمنة الأميركية. وهو ما يقود إلى قراءة نمطية لوضعية الطائفة الإسلامية الشيعية راهناً  في لبنان إنطلاقا من المقارنة بين هذين النموذجين الوطني والمحوري، وخصوصاً في ظل التغييب المضطرد للمرجعية الوطنية اللبنانية التي أرساها الإمام السيد موسى الصدر. علماً بأن النموذج المرجعي الوطني الذي أنتج المجلس الإســــلامي الشـــــيعي وحركــــــة المحروميـــــن وأفواج المقاومة اللبنانية (أمل) يبــــــدو بالمقارنــــــــة مــــــع نمـــــــوذج الانتفاضــــة العراقيــــــة الوطنيـــــة التي تجمــــع بين الشــــعب والمجتمع الأهلي- الســــياسي والمرجعيــــــة الدينيــــــــة العليــــــا في النجف كتنــــــويعتين على أصــــــل واحد، أصـــــل لا يتأسَّس على مبدأ “ولاية الأمر والطاعة” – كما ذكرنا – بل على مبدأ “ولاية الشـــــعب على نفســــــه” ومفهومي الحرية والنصيحة وضمناً الإرشاد. ولذلك يقوم النموذجان الوطنيان العراقـــــي واللبنانــــــي – المشار إليهما – على أصالة السؤال الداخلي وتحدياته من دون إغفال التحديات الخارجية المتعلقــــة بقضايا المنطقــــــة والهيمنـــــة الغربيــــــة عليها، أصالةٌ تدفــــــع حكماً لمواجهــــــة السلطة المســـــتبدة مواجهـــــة تعبِّــــــــر عن التوحيـــــد وخط الأنبيـــــاء. وكذلك ينطلق النمـــــــوذجان الوطنيان من مفهوم الشـــــــعب بمعناه الأنترولوجــــــي القائـــــم على المجتمـــــــع الأهلــــي- السياســـــي ويؤصِّلان عليـــــــه مفهـــــــوم التمثيل الشعبي السياسي.
  لقد أسهمت الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان إسهاماً وطنياً حاسماً في مواجهة العدو الصهيوني واستكمال تحرير الأرض وتبديد أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي كان يُقال عنه أنه “لا يُقهر”. وقد تحقَّق ذلك بالإضافة إلى دور حركة أمل والحركة الوطنية بالعلاقة العضوية التي قامت بين حزب الله والحرس الثوري والدولة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. غير أنه ينكشف اليوم فعلياً أن هذه العلاقة رغم ما أنتجته من فاعلية في حقل الصراع مع العدو الإسرائيلي، فإنها لم تُؤدِّ إلى إرساء علاقات وطنية لبنانية سويَّة وعلاقات لبنانية سورية سويَّة، ولم تُؤدِّ أيضاً إلى استعادة وحدة الكيان بالخروج النسبي على موازين القوى العالمية، بل انزلقت إلى الاندراج في حقل النفوذ الدولي الاقليمي الذي افتُتِحَ في العراق حيث انخرطت الوجهة الإيرانية في طي الاندفاعة الأميركية التفكيكية للمنطقة. إن تشكُّل داعش كدينامية سلبية بغية تفجير الأقطار العربية لم يكن ممكناً إلا في ظل تحويل العراق إلى هوَّة لتبرير مِلئها بالنفوذ الإقليمي الدولي. ذلك أن احتلال العراق من قِبل القوة الأميركية لم يكن ليؤدي تلقائياً إلى هذه الدينامية الداعشية التفكيكيَّة المُعمَّمة في المنطقة لولا هذا الانخراط الإقليمي في طي الاندفاعة الأميركية.
إن التحولات التي طرأت على بنية الطائفة الإسلامية الشيعة وعلى دورها في الكيان اللبناني والمنطقة لم تتناسب مع دورها المذكور في التصدي للمسألة الوطنية بالصراع مع العدو الإسرائيلي، فقد تحوِّلت إلى شكل جهازي حزبي ذي وظائف إقليمية مفارق لإنتمائها للمجتمع الأهلي-السياسي المحلي الذي يقوم على التنوُّع والتوحُّد بالمطواعية حـــول المرجعية الدينية الوطنية التي غُيِّبت وضُربت في لبنان وتحضر الآن كنموذج توحيدي وطني وحدوي فعَّال في العراق.
ســـــقوط سوريا واستحالة الإبقاء على “التوازن السلبي” في العراق ولبنــان
  بعــــــد ســــقوط الدولــــــة القطريـــــة في سورية والقبضة الروسية المباشرة عليها والتحكُم الأميركي العام بالمنطقــة، يبدو أنّه بات من الصعب إبقاء حقل التنازع على النفوذ في العراق ولبنان متشكِّلاً على أساس مبدأ “التوازن السلبي” الذي أدَّى، في سياق تعميق التجزئة القديمة، إلى تحويل الأطر الوطنية إلى عناصـر مفكَّكة في محاور غيـــر قابلـــة للتوحُّـــد رغم انهيار الحدود فيمـــا بينهــا. ولذلك ينحـــو العراق على هدي خط المرجعيــــة الدينية العليا في النجف الأشرف إلى استعادة كينونته الوطنيــــــة آخذاً بالاعتبار واقع المجتمع الأهلي -السياسي العراقي وموازين القوى الدولية، ساعياً إلى التفلُّت من حقلها التجزيئي بالتفلُّت من المحورية الإقليمية التي تحاول إعادة إنتاج هذه الموازين على أمل تقاسمٍ للنفوذ بات موهوماً كما يبدو في المرحلة الراهنة التي أعقبت اغتيال الجنرال قاسم سليماني.
يبقى أنه من غير الممكن الانطلاق من النموذج الوطني المتمسِّك بخط المرجعية الذي تقدمه انتفاضة الشعب العراقي، لتحديد مسار المسألة الوطنية في سوريا ولبنان وضمناً المسألة الشيعية عامة التي اندرجت في هذا المسار وسط تدافع حاد بين اتجاهات التوحيد والتجزيء والاتجاهات المحورية والوطنية. غير أنَّه بالمقابل بات من الممكن التأكيد على أن تجاهل هذا النموذج الوطني العراقي غير ممكن، كما أن العمل على تدميره لن يؤدي إلى إضعاف النفوذ الأميركي في المنطقة بل إلى ترسيخه بما يمكّنه من استكمال إسقاط الدول الوطنية العربية بمزيد من التجزيء، وهو ما يؤدي تلقائياً وبصرف النظر عن النوايا والأهداف، إلى ترسيخ وجود الكيان الاسرائيلي.
وفي أي حال يبقى أن خيــــار الخروج من الحقــل الإقليمي الدولي والانتقال من المحـــورية إلى الدولــــة الوطنية التكاملية داخل الأوطان وبينها باتّجاه توحيدي وحدوي هو الذي يؤمِّن، في ظل غياب أي قــوة صاعدية توحيديـــــة وحدويــــة قـــولاً وفعـــلاً على المستوى العربي – الإســلامي ككل، القدرة في آن واحـــــد على تحقيق التنميـــــة المســـــتقلة وبناء مؤسسات الرعايـــــة والعدالـــــة الاجتماعية، وعلى المواجهــــة الوجوديــــــة الشاملة مع العدو الإســـــرائيلي والهيمنــــة الأميركيــــــة، وعلى مراكمة الانتصارات العسكرية وســــــواها لمصلحة المنطقـــــة العربية – الإسلامية برمَّتها، ويحــــــول دون تبديدها في سياقات تجزيئية تحكُّمية موهومة أفضت مع عوامل أخرى إلى حروب أهلية مدمِّرة.

* نظير جاهـــل: أستاذ متقاعد في معهد العلوم الاجتماعية – الجامعة اللبنانية.
* يوسف كلوت: دكتوراه في علم الاجتماع.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى