في رحاب “اليوبنان” (دراسة مقارنة ج 1)
فُوتِحَ اللبنانيون (1) بتخوّف المسؤولين من أن ينحو لبنان، ماليًّا على الأقل، منحى اليونان. وقد فات المستشارين، المدجّجين حول السياسيّين وأصحاب القرار، المتراكمين في زوايا مختلف الإدارات، والمتزاحمين في حنايا تفكير المتحكّمين بمصير الدولة، فاتهم التنبيهُ الى أمور كثيرة وكثيرة جدًّا، ليت المقال، الذي قد يطول، يتّسع لها، غير أنّني سأرمي، وعشوائيًّا، بعضًا ممّا "خطر ببالي"، لأربطه (في مقارنة غير عادلة) في ما بين اليونان ولبنان.
لقد التحق اليونان بالإتحاد الأوروبي مستفيدًا ممّا تستفيد منه كلّ دولة عضو في الإتّحاد مع تفاوت أحجام الأعضاء السياسية والإقتصادية والإستفادات المالية. وفي المقابل، دخل لبنان في التحالف الإقليمي من أجل "النأي بالنفس" وهكذا نأى بنفسه (وفي بعض الحالات من نفسه) عن أي إستفادة من أي نوع.
مع إنهيار مالية اليونان إبّان الأزمة الإقتصادية المالية التي اجتاحت الغرب بعد العام 2008، تدخّل الإتحاد الأوروبي مرارًا وتكرارًا (على 3 مراحل) لدعم وإنقاذ أحد شركائه حتى وصلت قيمة الدعم ما يقارب 412 مليار يورو الآن ،وهو يُعْتبر دعمًا لليونان وصونًا للإتحاد الأوروبي معًا ،كما وإنقاذًا للدول الأوروبية المانحة، وفي مقدّمها ألمانيا الإتّحادية، وللإستقرار الإقتصادي والتجاري وبالتالي السياسي والإجتماعي في القارة العجوز.
في المقابل، وفي القارة العاجزة، ناهز دين لبنان العام المئة مليار دولار أميركي وكلّها، إقرأ جيّدًا، كلّها ديون، وغالبها داخلية، عائدة لأشخاص ومؤسّسات خاصّة وليس لدول أو بنوك دولية وصناديق أممية.
في هذه الأثناء جرت إنتخابات متكرّرة في اليونان إنتقل من خلالها الحكم من الوسط الى اليمين الى اليسار، ليستقرّ على إقرار الحلول للأزمة التي ما زالت على طريق الفرج.
أمّا في لبنان، ومن دون أيّ مسوّغ دستوري أو وطني أو أمني، فتمّ التمديد للحكّام في مناسبات ثلاث. ومن ثمّ تمّ اختراع قانون للإنتخاب بلا هوية، هجين، خليط، كما آراء ونَزَعات اللبنانيّين (ونِزاعاتهم)، من كلّ ما يخطر ببالك من أنظمة حكم .وقد أودى مع تطبيقه الى المزيد من مَذْهَبة كلّ متطلبات الحياة السياسية والإدارية والإجتماعية وحتى المعيشية والفسادية منها مفاقِمًا العقم الحاصل في ممارسة الحكم.
يبلغ عدد سكان اليونان 10,7 مليون يستقبلون كلّ سنة ما يفوق 30 مليون سائح وزائر من دون أن تتأثر جودة الخدمات في مختلف القطاعات. وأذكر أنه، خلال آخر زيارة لي الى اليونان، منذ 4 سنوات، للمشاركة في مؤتمر سياحي تراثي الى جزره الشهيرة، زرت جزيرة صغيرة لم يتوقّف التنقيب فيها عن الآثار منذ 30 عامًا ولم تتأثّر بالأزمات المالية. ويعود ذلك لكون الأشغال تُنفّذ بناءً لخطة وبرامج طويلة النفس والأجل تهدف الى اكتشاف ونبش وإحياء وإعداد المواقع السياحية ،ثمّ إعادة بنائها ووضعها على خريطة المسار السياحي التراثي للبلاد، تراث أزلي أبدي. والجزيرة ممنوع الإقامة فيها ليلًا منعًا للعبث بالأشغال القائمة.
أما في لبنان، فالمواقع التراثية المعروفة والمصنّفة دوليًّا من قبل منظمة الأونيسكو مهملة ،وتلك غير المكتشفة والمعروفة تُطْمَر وتُمْحى آثارُها مخافة من كشفها و"خدمة" "للنهضة" العقارية وغيرها من أسباب. والإقامة في لبنان هي "ليلية" دائمة .. بسبب إنقطلع التيار الكهربائي.
وفي تقييم لِوَعي الناس لحالهم وسلوك المواطنين، أذكر أنّني إنتقلت من العاصمة أثينا الى مرفأ بيريوس في سيارة أجرة، وكان السائق محدّثًا لائقًا باللغة الإنكليزية. واستغربت سائلًا كيف أن طرقات العاصمة الرئيسية وساحاتها كانت سالكة بسهولة وشبه فارغة وذلك ظهر يوم الإثنين، أول أيام عمل الأسبوع، والذي طالما يكون من أكثر الأوقات اكتظاظًا. فكان جوابه الفوري، الطبيعي والواثق من دون أي مراعاة: سيدي، ليس هناك من عمل للناس هذه الأيام، فإلى أين سيذهب اليونانيون؟ هكذا، وبهذه البساطة لخّص لي هذا المواطن الوضع الإقتصادي للبلاد مبديًا مستوىً عالٍ من المسؤولية الوطنية شاملة وملتزمة سياسة التقشّف العام.
حاولت أن أتصوّر مثيلًا لهذا الموقف في لبنان، فراودتني رؤية اللبنانيّين وهم يزدحمون، في حال مشابهة، في كلّ الطرقات والإتّجاهات كي "يتفرّجوا" على إنعدام فرص العمل .. أسوة بإخوانهم الذين نزلوا الى الساحات في أيام الحرب الغابرة كي "يتفرجوا" على منع التجوّل.
كلّ ما سبق هو من وحي زيارة رئيس اليونان الأخيرة الى لبنان بعد زيارات مشابهة لرؤساء قبرص وبلغاريا وغيرهم، وهل يمكن لنا أن ننسى مشاهد تسكير معابر المرور في البلاد كي يتجول مسؤولونا في الطرقات "سائرًا مهيبًا كمرياع الغنم" (2) في محاولة لفرض "هيبة بدل عن ضائع" أمام الضيف ؟
وهل إنتبه اللبنانيون الى أهمّ ما جاء في تصريحات الرئيس اليوناني ؟ وقد أفصح (وقد يصلح القول "أفضح" بعدما حطت على صاد الكلمة بعوضة صادرة من مكبّ النفايات) أفضح ما صرّح به كان أن الإتحاد الأوروبي لم يفِ بالتزاماته (يعني المالية منها) تجاه اليونان .. أوووهه !.. وهل هذا تحذير يستبق خيبة أمل لبنان من إلتزام مشابه لمقتضيات مؤتمرات التسوّل الخاصّة به ؟
قد يكفي السائح الى مطار أثينا أنه ليس عليه أن يهرول من الخارج الى داخل المباني هربًا من الروائح الكريهة المميتة النفاياتية والمجاريرية. وهو لا يتعطّل في البحث عن حامل للحقائب أو مجرّد العثور على ناقلة حقائب. هو حتى ليس عليه أن يتجنّب تضارب (من فعل ضرب عمرٌ زيدًا .. فعليًّا) رجال الأمن مع صلاحياتهم فيذهب التحقيق الى أبعد ممّا يتصوّره العقل البشري ليكتشف المسؤول (من إكتشاف الثقب الأسود .. آخر الإكتشافات البشرية الكبيرة والنادرة) فتقع المسؤولية، كلّ المسؤولية، على حاملة الحقائب فتُلغى الحاملات من وظيفتها !!.. وهو لا يقبع في انتظار جلاء التحقيق (من جديد، لاحظ) في مسؤولية تعطيل مسار الحقائب على مسالكها وحواسيب تسيير الرحلات وبالتالي توقّف كلّ حركة المطار لقرابة يوم كامل، تحليقًا وتأريضًا، دخولًا وخروجًا، مع تراكم المسافرين والمحقّقين والفضوليّين (عدّة كلّ شغل) حتى ينجلي الأمر فَيَلِدَ فأرًا (من فأرة الحاسوب) وتُحمّل المسؤولية لبرنامج الحاسوب الذي تمّ تصميمه في .. كندا وقد سهوا عن تحديثه (رحمونا هنا لأنّه كان يمكن أن يكون المسؤول تحت 500 متر من الجماد الجليدي عمره آلاف السنين في القطب الجنوبي للكرة الأرضية).
والتحقيق بالتحقيق يُذْكَر ويُذَكِّر، هل نوضّح للسائح عمّا آل إليه التحقيق عن المسؤول عن إلغاء مجرور الرملة البيضاء والذي اشترك فيه (التحقيق وليس المجرور) القضاء والمحافظة والبلديات ووزارات الوصاية والحراك والمقاول والوسيط والبسيط وذائع السيط و… القدر ؟
وهل ينفع تحقيق (لا يجرؤ أحدٌ على إجرائه) في المسؤولية عن الخطط الهمايونية والإستشارات "الماكرو" على شعب "ميكرو" والعمليات الفلكية الحجم التي أفقرت اللبنانيّين على مدى ربع قرن ؟
حقًا! هل تريدون حقًا إجراء مقارنة فيما بين بلاد زوربا وبلاد زربة (أو زريبة) ؟
إذا أصرّيتم على ذلك، فعليكم أن تنتقلوا الى الجزء الثاني من هذه الشارد(غدا جزء 2).
حيّان سليم حيدر
باحث … عن فسحة من الأمل،
مواطن لبناني … قيد التأسيس.
بيروت، في 17 نيسان 2019م.
(1) وهم منفتحون أصلًا على كلّ شائبة ونائبة ومصيبة وكارثة
(2) وهو خروف كثير الصوف، جميل الصوت، ويتم إخصاؤه كي لا ينشغل عن وظيفته الأساسية وهي (قيادة القطيع)، أما عن جمال صوته فذلك لأن أفراد القطيع غالبًا ما يتبعونه مطأطئي الرؤوس مستمعين لصوته الجميل دون الحاجة لمشاهدته أو مشاهدة ما يجري حولهم. يتميز المرياع بالذكاء وقابليته للتعلم ويتسم بانصياعه لسلطة (الحمار أو الراعي) الأمر الذي يمكنه من قيادة قطيعه بسهولة ويسر إلى أماكن ورود الماء والكلأ.