الى متى نتظاهر؟
آن الأوان لنقرأ مجريات الأيام العشرة الماضية بهدوء ووعي بعيداً عن التشنج والاحتقان والاصطفافات التي عادت لتقسم شارعنا ومجتمعنا، وها هي اليوم تقسم تظاهراتنا التي كانت في أيامها الأولى نقطة الالتقاء بين اللبنانيين.
لا أعتقد أن هناك من ينكر فساد السلطة الحاكمة ورموزها الذي أحدثوا في هذا البلد في كل مجالاته ما لا تقدر على تحمله البلاد الكبيرة. وإن كان علينا أن نكون موضوعيين في تقييمنا، فيجب أن نلقي باللائمة على شعبنا الذي منح لزعمائه الحرية والصلاحية والقوة والقدرة والوسيلة ليفسد في الحكم ويسرق خيرات البلاد والعباد، مع أن الجميع يعلم مدى فسادهم وإجرامهم.
لكن، ولننظر الآن إلى المسألة من خلال منظار آخر، وهو استفاقة الشعب وانتفاضته بعد سبات طويل ليعي أخيراً أن رموز الحكم هم أصل البلاء ويجب محاكمتهم واسترداد ما يمكن استرداده منهم، ثم العمل على تغيير نظام الحكم القائم الذي عاش بين ظهرانينا عقوداً طويلة خلت.
إن أزماتنا الاقتصادية أساسها سياسي كما لا يخفى على أحد، وهو ما يجب أن يكون السعي لتغييره في المرحلة القادمة، وذلك بعد تحسين الأوضاع الاقتصادية أولاً فإنها لا تقبل التأخير أو التأجيل أو التسويف.
وبعيداً عن نظرتنا للخلل السياسي في نظامنا المتهالك، وسبل التصحيح في المدى المنظور، وانتقادنا لمن خالفنا في توجهاته في هذا الحراك واتخاذه درباً آخر يرى فيه الخيار الأفضل، وبغض النظر عن موقف الشعب الموحّد الذي شهدناه ولما نزلْ في الغضب العارم ضد الفساد والفاسدين والدعوة بقوة لإصلاح الوضع القائم؛ لكن علينا أن ندرس واقعنا بكثير من الجدية والتمعن. يجب أن ندرك جيداً أن شعبنا لا يمكنه البقاء في الشارع طويلاً، ولا يمكن للمؤسسات أن تقفل أبوابها إلى أمد نجهل أوانه، فإن التظاهرات التي باركناها جميعاً كانت الأوضاع الاقتصادية المزرية شرارتها الأولى وهي التي تحتم علينا أن ننظر بعين الوعي وليس الحماسة والعاطفة والاندفاع فنصلح أوضاعنا بطريقة أخرى وهي ليست في البقاء في الشارع. فكم من موظف أنفق راتبه بانتظار آخر الشهر الذي أصبح على الأبواب؟ وكم من التجار وصغار الكسبة افتقر حالهم بعد أن توقف رزقهم عشرة أيام ولا يعلمون متى ستتبدل الأوضاع؟ وما سوف يكون مصيرنا إذا طال الأمد أكثر وارتفع سعر الدولار ليرتفع معه كل شيء؟ والمضحك المبكي أن غالبية المتظاهرين ومؤيديهم هم الضحايا في الدرجة الأولى لأنهم الفقراء في هذا الوطن، أما أهل السلطة فإنهم يملكون المال والوقت والكثير من الوقاحة لينتظروا كثيراً.
ونقول بكثير من الواقعية، إننا شعب ليس محصناً في غالبيته من مثالب التعصب والتبعية والانتماء التي عاش تحت عباءتها أمداً طويلاً، وهي تعيش في وجدانه، وتؤثر على اندفاعاته وتحركاته وقراراته، وإن استطاعت معيشة الفقر والحرمان أن تدفعه للنزول إلى الشارع والانضواء لأيام تحت شعار موحد، إلا أنها لن تقدر على تجنيبه طويلاً إمكانية التصارع والتقاتل في شارع التظاهر كلما تعرض زعيم من هنا أو هناك لأية إساءة، أو فُهم طرح سياسي ما على أنه مصوب لهذه الطائفة أو تلك، بغض النظر إن وقع ذلك عن قصد لأن هناك في الداخل والخارج من يتربص بنا الدوائر، أوغير قصد لضعف تحصيناتنا الذاتية. ألم تحدث مثل هذه المشاحنات الخطيرة في الساعات الأخيرة وكادت أن تؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه؟ ألسنا نتحدث الآن عن شارعين أو أكثر بين المتظاهرين؟ أفلا يلوم كل طرف غيره على ما آلت إليه الأمور؟
إننا لا ندعو إلى اليأس والاستسلام للطبقة الحاكمة، ولا التضحية بما أُنجز وهو ليس بالقليل وإن لم يكن كافياً، لكننا ندعو في الخطوة الأولى إلى مناقشة الورقة الإصلاحية والاستفادة منها وإضافة ما يمكن إضافته، والعمل على ضمان تنفيذ بنودها من خلال مراقبين يمكن الوثوق بهم. وبعد ذلك فليكمل العمل على إنجاز الإصلاح السياسي بما يرضي أكثر اللبنانيين، وسيكون الأمر أسهل مستقبلاً، لأن أهل الحكم لم يعد يملكون التسلط القديم الذي كان قائماً قبل الحركة الشعبية العظيمة، كما أن النزول إلى الشارع هو خيار متاح في كل زمان ومكان، وعند تعنت أي زعيم أو مسؤول.
التظاهر ليس ترفاً لشعب مزقته الحروب وتجارها، وهو ليس إلا وسيلة لتحقيق غاية شريفة هي العيش بكرامة وأمن وسلام كباقي شعوب العالم. يجب أن يكون للعقلانية دور في معالجتنا للأزمة الراهنة، مع الاعتراف أن هذه المرحلة تفتح الأبواب مشرعة على كثير من الانفراجات الاقتصادية والسياسية بعد أن قام الشعب للمطالبة بالتغيير ورفض الأمر الواقع. لقد آن لبلدنا الصغير أن ينتهي من مشاكله الكبيرة وماضيه البائس ليعيش أخيراً من أجل مستقبل الأيام والأجيال. أفهل ذلك حلم يصعب تحقيقه؟