أزمة الودائع في لبنان: بين انهيار النظام وغياب العدالة المالية (أسامة مشيمش)

بقلم: الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
عندما نتحدث عن الواقع المالي والاقتصادي في لبنان ونصفه بأنه أزمة عابرة و نتيجة ظرف استثنائي نقع في المحظور.
لماذا؟
لأنه نتاج انهيار بنيوي لنظام اقتصادي – مالي كامل، قام لعقود على اختلالات عميقة في الحوكمة، وتداخل غير صحي بين الدولة والقطاع المصرفي، وغياب شبه تام للمساءلة. ومن هنا، فإن قضية أموال المودعين لا تُختزل بمشكلة تقنية أو قانونية فحسب، بل تمثل جوهر الأزمة ومقياس عدالة أي حل مطروح.
منذ عام 2019، دخل لبنان مرحلة غير مسبوقة من الانهيار المالي، حيث فُرضت قيود قسرية على الودائع والتحويلات المصرفية دون أي إطار قانوني واضح. هذه الإجراءات، التي عُرفت اصطلاحًا بـ«القيود المصرفية»، شكّلت انتهاكًا مباشرًا لمبدأ سيادة القانون ولمفهوم الملكية الخاصة، وحوّلت المودع من صاحب حق إلى طرف ضعيف يتحمل كلفة سياسات لم يكن شريكًا في صنعها.
اقتصاديًا، لم تكن الأزمة ناتجة عن سوء إدارة ظرفي أو نقص في السيولة، بل عن نموذج اقتصادي اعتمد على تمويل عجز الدولة عبر النظام المصرفي، باستخدام ودائع المواطنين، مقابل فوائد مرتفعة ومخاطر متراكمة. ومع تعثر الدولة عن السداد، انهار هذا النموذج، وانكشفت فجوة مالية ضخمة بين الالتزامات المسجلة لدى المصارف ومصرف لبنان، وبين الأصول الفعلية القابلة للتحصيل.
هذه «الفجوة المالية» أصبحت اليوم محور النقاش التشريعي، من خلال مشاريع قوانين تهدف، نظريًا، إلى الاعتراف بالخسائر وتوزيعها. غير أن الإشكالية الجوهرية لا تكمن في الاعتراف بالخسارة بحد ذاته، بل في كيفية توزيعها، وعلى من تُلقى تبعاتها. فالمودعون، الذين لم يتخذوا قرارات السياسة النقدية ولا خطط الدين العام، يجدون أنفسهم مرة أخرى الحلقة الأضعف في معادلة الإنقاذ.
إن مقاربة معالجة الودائع من خلال استرداد جزئي، مؤجل، أو عبر أدوات مالية طويلة الأجل، تطرح إشكاليات اقتصادية وقانونية عميقة. فالوديعة المصرفية، من حيث المبدأ، هي حق فوري ومحدد القيمة، وليست استثمارًا خاضعًا للمخاطر. تحويل هذا الحق إلى سند أو وعد طويل الأمد، في ظل تضخم مرتفع وانعدام الثقة، يعني عمليًا تآكل القيمة الحقيقية للودائع، حتى وإن أُعيدت شكليًا.
الأخطر من ذلك أن أي معالجة لا تترافق مع محاسبة فعلية للمسؤولين عن الانهيار، تبقى معالجة ناقصة وتفتقد للشرعية. فلا يمكن بناء نظام مالي سليم من دون مساءلة إدارات المصارف، وتحديد مسؤوليات مصرف لبنان، وكشف مصير الأموال التي حُوّلت إلى الخارج في ذروة الأزمة. فغياب المحاسبة لا يعني فقط ظلمًا للمودعين، بل إعادة إنتاج الشروط نفسها التي أدت إلى الانهيار.
من منظور الاقتصاد السياسي، لا يمكن تبرير تحميل المودعين كلفة «الاستقرار المالي». فالاستقرار الحقيقي لا يُبنى على كسر الثقة بين المواطن والنظام المصرفي، ولا على إضعاف الطبقة الوسطى التي تشكل العمود الفقري لأي اقتصاد منتج. بل على العكس، إن حماية الودائع هي شرط أساسي لإعادة تحفيز الادخار والاستثمار، واستعادة الدور الطبيعي للقطاع المصرفي كوسيط مالي، لا كأداة لتمويل العجز.
إن الأزمة اللبنانية هي في جوهرها أزمة حوكمة وعدالة، قبل أن تكون أزمة أرقام وحسابات. وأي قانون مالي لا ينطلق من مبدأ حماية الحقوق، وتحقيق العدالة التوزيعية، وإرساء الشفافية والمساءلة، لن يكون سوى إدارة مؤقتة للأزمة، لا حلًا مستدامًا لها.
في الخلاصة، لا يمكن إنقاذ الاقتصاد اللبناني من دون إعادة الاعتبار لحقوق المودعين، لا بوصفهم عبئًا على النظام، بل باعتبارهم أساسه. فالثقة لا تُفرض بالنصوص، ولا تُستعاد بالوعود، بل تُبنى بالعدالة. ولا اقتصاد بلا ثقة، ولا ثقة بلا قانون، ولا قانون بلا عدالة.


