إقتصاد

“اليوان الصيني الذهبي” : هل ينهي عصر “العملة الوحيدة التي لا تُسأل” ؟(عماد عكوش)

 

بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز

في خطوة مفاجئة للعالم، تعلن الصين عن حيازات ذهبية مدقّقة تفوق بكثير ما تم الكشف عنه سابقاً ، وبكميات تكفي لتجاوز الاحتياطات الرسمية للولايات المتحدة الأميركية. ولم يكد العالم يستفيق من الصدمة الأولى، حتى أقدمت بكين على مناورة استراتيجية أعمق تمثّلت في الإعلان عن أن اليوان الصيني في الأسواق الخارجية   CNH) ) بات مدعوماً جزئياً بالذهب وقابلاً للتحويل إلى ذهب مادي قابل للتسليم.

هذا الإعلان لا يمثّل مجرد تعديل تقني في السياسة النقدية، بل يشكّل تحوّلاً بنيوياً في مفهوم الثقة النقدية، وإشارة واضحة إلى أن النظام المالي العالمي يدخل مرحلة تعدّدية نقدية فعلية بعد أكثر من ثمانية عقود من الهيمنة الأحادية للدولار الأميركي.

اليوان الذهبي هو نسخة من اليوان المتداول خارج البرّ الصيني، تتيح لحامليه استبدال العملة بذهب مادي وفق سعر تحويل مُعلن وسقوف يومية محدّدة. ووفق المؤشرات الأولية، يلمّح سعر التحويل إلى مستوى يقارب 5.00 يوانات للدولار الواحد، مقارنة بمستويات سابقة قاربت 7.00، ما يعني إعادة تسعير تاريخية لقيمة العملة الصينية.

بهذا القرار، تتحوّل خزائن الذهب في شنغهاي وشنتشن وهونغ كونغ إلى مركز ثقل لنظام مالي عالمي جديد، يقدّم للعالم ما غاب منذ عقود: عملة مرتبطة باحتياطي ملموس، لا بمجرد وعود سيادية.

يأتي هذا التحوّل نتيجة تراكم مجموعة عوامل استراتيجية:

1.    تسييس الدولار واستخدامه كسلاح عقوبات.

2.    التوسّع غير المسبوق في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.

3.    تآكل الثقة العالمية بالعملات الإلزامية (Fiat).

4.    تراكم الصين للذهب بهدوء على مدى ثلاثة عقود.

5.    توسّع التجارة جنوب – جنوب خارج الإطار الغربي.

الصين لا تسعى إلى إسقاط الدولار فوراً، بل إلى إنهاء احتكاره المطلق للنظام النقدي.

تعتمد بكين نهجاً تدريجياً لتفادي الصدمات:

-     الفصل بين الداخلي والخارجي

يقتصر اليوان المدعوم بالذهب على الأسواق الخارجية مثل هونغ كونغ و**سنغافورة**، بينما يبقى اليوان المحلي  CNY) ) خاضعاً لإدارة موجّهة صارمة.

-     سلة أصول لتخفيف التقلب

الذهب هو الركيزة الأساسية، لكن النظام مدعوم أيضاً بسندات خزانة أميركية وسلع استراتيجية (النفط، النحاس، الحبوب) لاحتواء التقلّبات.

-     بناء الثقة عبر التدقيق

تؤدي عمليات تدقيق مستقلة من أطراف ثالثة إلى تعزيز مصداقية النظام الجديد.

-     المرحلة النهائية

الانتقال إلى قابلية تحويل كاملة لليوان مقابل الذهب عند الطلب ضمن حدود يومية.

لجذب الدول الأخرى، تعرض الصين:

  •      خطوط مبادلة “ذهب مقابل يوان” لمنتجي النفط في الخليج.
  •      شراكات مع البنوك المركزية في دول رابطة دول جنوب شرق آسيا.
  •      عقود نفط ونحاس قابلة للتسوية بالذهب.
  •      إمكانية إصدار الفواتير باليوان الخارجي مع خيار استلام الذهب المادي.

ورغم ذلك، تختار غالبية الدول الاحتفاظ بسندات صينية مقوّمة باليوان لما توفره من سهولة تشغيلية وعائد بسيط ومخاطر أقل مقارنة بالدولار المُسيّس.

لقد تطوّر احتياطي الذهب الصيني خلال 30 عاماً ويمثّل تراكم الذهب العمود الفقري لهذا التحوّل.

المحطات الرئيسية (احتياطي رسمي مُعلن):

  •      منتصف التسعينات : 394 طن
  •      2001    : 500  طن
  •       2003 :  600  طن
  •      2009 :  1,054  طن
  •      2022 :   1,980  طن
  •      2024 : 2,280  طن
  •      2025 : 2,305  طن

خلال ثلاثين عاماً ، ارتفع الاحتياطي الرسمي المُعلن بنحو 1,900  طن ، أي ما يقارب ستة أضعاف ، مع نمط صيني واضح يقوم على التراكم الهادئ ثم الإعلان المتأخّر.

مع تنامي الثقة في اليوان الذهبي :

  •      تتراجع حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية بنحو الثلث.
  •      ترتفع عوائد سندات الخزانة الأميركية نتيجة موجات بيع أجنبية.
  •      يقفز الذهب متجاوزاً 6,000  دولار للأونصة.
  •      يتجه سعر USD/CNH إلى ما دون مستوى 5.0.

الدولار لا ينهار، لكنه يفقد امتيازه الجيوسياسي الأساسي ، وسيتشكل نتيجة ذلك نظام عالمي جديد بمواصفات جديدة . فالدولار قوي وسائل ، لكنه سياسي  ، واليوان الذهبي أبطأ وأكثر انضباطاً ، لكنه ملموس ومدعوم بأصل حقيقي . لسنا أمام حرب عملات ، بل إعادة توازن تاريخية تنهي مرحلة استثنائية من الهيمنة النقدية الأحادية.

اليوان الذهبي لن يُلغي الدولار ، لكنه بالتأكيد سينهي عصر “العملة الوحيدة التي لا تُسأل”. إنه أول اختبار جدي منذ عقود لفكرة أن الثقة النقدية يمكن أن تعود إلى الأصل، لا إلى الوعد ، وإذا نجحت الصين في إدارة هذا التحوّل دون فقدان السيطرة الداخلية ، فقد يشهد العالم خلال عقد واحد أكبر إعادة هيكلة للنظام المالي العالمي منذ بريتون وودز.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى