سياسة الانقسام والحرب الإقليمية تسحق لبنان النفسي: المواطن بين النار والخوف (زينب إسماعيل)

زينب اسماعيل – الحوارنيوز
القلق اليومي تحت القصف
في لبنان، لا يعيش المواطن حالة انتظار مؤقتة، بل يقيم داخل قلق دائم. القذائف ما زالت تدوي في الجنوب، وطائرات العدو لا تغادر الأجواء اللبنانية، فيما الداخل يعيش توترًا متصاعدًا لا يملك ترف التراجع. الحرب ليست احتمالًا نظريًا، بل واقعًا يوميًا يتسلل إلى تفاصيل الحياة، ويضغط على النفوس قبل أن يصيب الحجر.
السياسة اللبنانية تضاعف التوتر
غير أن الخطر لا يأتي فقط من الخارج. فالدولة التي يُفترض أن تشكّل مظلة أمان في لحظات التهديد، تحوّلت إلى عنصر إضافي في صناعة الخوف. السياسة اللبنانية، بدل أن تطمئن الناس وتشرح لهم موقعهم وحدود الخطر، اختارت خطابًا غامضًا ومتوترًا، يزيد الإرباك ويترك المواطن وحيدًا في مواجهة المجهول.
الغضب المتفشّي في المجتمع
هذا الواقع خلق حالة توتر نفسي جماعي. اللبناني اليوم يعيش مشدود الأعصاب، مترقّبًا، سريع الغضب، فاقدًا للثقة بكل ما يصدر عن الطبقة السياسية. لا خطط واضحة، لا خطاب مسؤول، ولا رؤية تُقنع الناس بأن أحدًا يمسك زمام الأمور. كل تصريح سياسي يبدو وكأنه موجّه للخارج أو للاستهلاك الفئوي، لا لمصلحة المجتمع الذي يدفع الثمن فعليًا.
الانقسام الطائفي والمذهبي يزيد الأزمة
وتزداد هذه الحالة تعقيدًا بفعل السياسة الطائفية والمذهبية التي ما زالت تتحكم بإدارة الأزمات في لبنان. ففي كل مرة يواجه البلد خطرًا أو توترًا، تعود الطبقة السياسية إلى خطاب الانقسام بدل خطاب الحماية. كل تطور أمني يُقرأ من زاوية طائفية، وكل حدث إقليمي يُستثمر مذهبيًا، وكأن اللبناني لا يُسمح له بأن يكون مواطنًا خارج هويته الضيقة. هذا الخطاب يحوّل الاختلاف إلى تهديد، والجار إلى خصم محتمل، ويعيد إنتاج خطوط تماس نفسية واجتماعية أخطر من أي حدود عسكرية.
المستقبل المجهول يقتل الطموح
في هذا المناخ، يصبح التفكير بالمستقبل عبئًا نفسيًا. جيل كامل يعيش بلا أفق واضح، بلا قدرة على التخطيط، وبلا ثقة بأن الغد أفضل من اليوم. الناس لا تسأل ماذا ستفعل بعد سنوات، بل كيف ستصمد في الأشهر المقبلة. هذا الغموض المستمر يقتل الطموح، ويحوّل الحياة إلى سلسلة محاولات للبقاء لا أكثر.
التعليم بلا معنى
التعليم، الذي كان أحد أعمدة المجتمع اللبناني، يتراجع بدوره تحت وطأة هذا القلق العام. حين يفقد الاستقرار، يفقد العلم معناه. الطلاب يدرسون بلا دافع، الأساتذة يعملون بلا أمان، والمؤسسات التعليمية تترنّح في بلد لم يعد قادرًا على ضمان الحد الأدنى من الاستمرارية. المعرفة، في زمن الخوف، تتحوّل من أداة خلاص إلى عبء إضافي.
الاقتصاد يعيش شلل الخوف
أما الاقتصاد، فيعيش شللًا ناتجًا عن القلق أكثر مما هو ناتج عن الأرقام. الناس تخاف أن تصرف، تخاف أن تستثمر، تخاف أن تبدأ أي مشروع. كل قرار مالي تحكمه هواجس الحرب والتصعيد والانهيار. وهكذا يتحوّل الخوف إلى عامل قتل بطيء للاقتصاد، وتتحوّل البطالة والفقر إلى شكل من أشكال العنف الصامت.
آثار نفسية لا يمكن تجاهلها
كل ذلك ينعكس مباشرة على الصحة النفسية للمجتمع. ارتفاع في معدلات الجريمة، انتشار التعاطي، تزايد الاكتئاب، وحالات انتحار لم تعد صادمة كما كانت. هذه ليست ظواهر معزولة، بل نتائج طبيعية لمجتمع يعيش تحت ضغط مستمر، بلا أفق وبلا شبكة أمان نفسية أو سياسية.
من المسؤول ومن يتحمّل؟
المشكلة في لبنان لم تعد ظرفًا أمنيًا عابرًا ولا نتيجة تطورات إقليمية خارجة عن السيطرة، بل أصبحت نتاجًا مباشرًا لطريقة إدارة البلد. طبقة سياسية تعرف حجم الخطر، وتدرك أثر خطابها على الشارع، ومع ذلك تختار الاستمرار في سياسة الغموض، والتخويف، والاستثمار في الانقسام. تُمسك بخيوط القرار، لكنها تترك المجتمع معلّقًا، بلا معلومات، بلا ضمانات، وبلا إحساس بأن أحدًا يتحمّل مسؤولية ما يجري.
السياسة اللبنانية اليوم لا تحمي الناس من ارتدادات الإقليم، بل تربط مصيرهم بها. لا تسعى إلى تحييد المواطن عن الصراع، بل تستخدمه كوقود معنوي، ترفع منسوب التوتر حين يناسبها، وتخفضه حين تخدمها التهدئة. تُدار البلاد بمنطق إدارة الأزمات لا حلّها، وبمنطق شدّ الأعصاب لا تهدئتها، وكأن الانهيار النفسي للمجتمع تفصيل ثانوي لا يستحق المعالجة.
هذا النهج، القائم على الطائفية والاصطفاف والرسائل الملتبسة، لا يصنع توازنًا ولا يحمي استقرارًا. هو يراكم الخوف، ويُنتج مجتمعًا منقسمًا، منهكًا، وسريع الاشتعال. دولة تتصرّف بهذه الطريقة لا تُخاطر فقط بأمنها السياسي، بل تقامر بسلامة مجتمعها وقدرته على الصمود.
أما المواطن، فليس مطلوبًا منه أن يكون بطلًا ولا مشروع شهيد دائم. المطلوب منه ألّا يسمح بتحويل خوفه إلى أداة في يد أحد، وألّا يسلّم وعيه لخطاب التحريض والانقسام. في لحظات كهذه، يصبح التفكير النقدي، ورفض الشحن الطائفي، والتمسّك بفكرة الدولة لا الجماعة، أشكالًا أساسية من حماية الذات والمجتمع.
لبنان اليوم لا يحتاج فقط إلى وقف إطلاق نار أو تسوية إقليمية، بل إلى إعادة ترميم الثقة، واحتواء الخوف، وحماية الناس نفسيًا قبل أي شيء آخر. لأن بلدًا يعيش شعبه على حافة الانهيار النفسي، قد يصمد عسكريًا… لكنه ينهار من الداخل بصمت.


