رأي

الخارجية اللبنانية: من تمثيل الدولة إلى خدمة الأجندة الحزبية (أكرم بزّي)

 

كتب أكرم بزّي – الحوارنيوز

 

في مفارقة لافتة تكشف حجم الانحدار في الخطاب الدبلوماسي الرسمي اللبناني، جاء التذكير بقواعد العمل الدبلوماسي من خارج لبنان لا من داخله. فحين سُئل دبلوماسي إيراني عن طبيعة موقف بلاده، شدّد على أنّ العلاقات الدولية تُدار وفق قواعد وأصول دبلوماسية صارمة، وأنّ مبدأ المعاملة بالمثل هو القاعدة المعتمدة، مع الإقرار بأنّ بعض العلاقات تفرض خصوصيات تُراعى أحيانًا بحكم الواقع السياسي. هذا الكلام، الصادر عن ممثّل دولة منخرطة في صراعات إقليمية مفتوحة، بدا أقرب إلى منطق الدولة والمؤسسات من سلوك وزير خارجية لبنان نفسه.

في المقابل، يتصرّف وزير الخارجية اللبناني جو رجّي عمليًا كفاعل حزبي في موقع دبلوماسي، لا كمسؤول رسمي يمثّل دولة ذات سيادة وتوازنات دقيقة. خطاب هجومي انتقائي، انحياز سياسي فاقع، وتوظيف مباشر لمنبر وزارة الخارجية في معارك داخلية وإقليمية، مؤشرات واضحة على خروج متعمّد عن وظيفة الوزارة، وتحويلها من أداة لحماية لبنان ومصالحه، إلى منصة حزبية تُدار بمنطق الاصطفاف والاستقواء، لا بمنطق الدولة والأعراف الدولية.

في هذا السياق، لم يعد خافيًا على المراقبين أنّ وزارة الخارجية اللبنانية تعرّضت لاختطاف سياسي، بعدما باتت تُستخدم للتعبير عن توجهات “القوات اللبنانية” وخطاب رئيسها سمير جعجع، بدل أن تعكس السياسة الخارجية للدولة اللبنانية كما تُقرّ في مجلس الوزراء. فالوزارة، التي يفترض أن تكون مساحة إجماع وطني وحساسية عالية في بلد كلبنان، تحوّلت إلى منبر إعلامي وسياسي يخدم أجندة فئوية ضيّقة ذات طابع يميني متشدّد، في تعارض صارخ مع تقاليد العمل الدبلوماسي اللبناني.

ويتجلّى هذا الانحراف بوضوح في طبيعة الخطاب الذي يعتمده الوزير في لقاءاته مع الوفود الدبلوماسية وفي إطلالاته الإعلامية. إذ يطغى التركيز على مهاجمة طرف لبناني داخلي بعينه، وإعادة فتح ملفات خلافية حسّاسة تحت عناوين “السيادة” و”بسط سلطة الدولة”، فيما يُلاحظ تراجع ملحوظ في حدّة الخطاب تجاه العدو الإسرائيلي، أو اللجوء إلى لغة ملتبسة وحيادية عند مقاربته. هذا الاختلال في الأولويات لا يمكن قراءته كزلة لسان أو خطأ بروتوكولي، بل كنمط سياسي متكامل يعكس تموضعًا مقصودًا يبدّل تعريف العدو ويشوّه وظيفة الدبلوماسية.

في الوقت نفسه، يجري الإكثار من الحديث عن “الحلول الدبلوماسية” و”المسارات التفاوضية” باعتبارها الخيار الوحيد، في مقابل تصعيد سياسي وإعلامي يُضعف الموقف اللبناني ويقدّم ذرائع سياسية للعدوان بدل ردعه. فالدبلوماسية، وفق هذا الأداء، لا تُستخدم كأداة حماية للبلد، بل كوسيلة ضغط داخلية واستدعاء غير مباشر لمزيد من الضغوط الخارجية، بما يفاقم هشاشة الموقع اللبناني بدل تحصينه.

هذا المسار يشكّل خروجًا فاضحًا عن سياسة لبنان الخارجية التقليدية، التي قامت تاريخيًا على قدر من التوازن والحذر، وعلى تجنّب الزج بالبلاد في محاور حادّة، ولا سيما في ظل هشاشة الوضع الداخلي وتعقيدات الإقليم. فحين تُدار وزارة سيادية من خارج منطق الدولة، وتُربط خياراتها بحسابات حزبية وإقليمية، يصبح لبنان مكشوفًا سياسيًا ودبلوماسيًا، وتتحوّل الخارجية من خط دفاع أول إلى نقطة ضعف بنيوية.

وهنا تبرز مسؤولية رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء. فالدستور ينيط بهما، ومع مجلس الوزراء مجتمعًا، رسم السياسة العامة للدولة، ولا سيما في الشؤون الخارجية. إن الصمت، أو الاكتفاء بمواقف عامة لا تُترجم ضبطًا فعليًا للأداء الوزاري، يضع الرئاستين في خانة التقصير أو القبول الضمني بانحراف وزارة سيادية عن دورها. والأسوأ أنّ ترك كل وزارة تتصرّف وفق أجندتها يحوّل الدولة إلى جزر متنافرة، ويضرب وحدة القرار الوطني في لحظة إقليمية شديدة الحساسية.

إلى جانب ذلك، يفرض هذا الواقع طرح مسألة الثقة السياسية بشخص وزير الخارجية وأهليته لتولّي حقيبة سيادية بهذا القدر من الدقة. فالدبلوماسية ليست مساحة للتعبئة الحزبية، بل مسؤولية وطنية تتطلّب اتزانًا وقدرة على الفصل الصارم بين القناعة الشخصية والواجب الوظيفي. وحين يفقد الوزير شرط الحياد الوظيفي ويتحوّل إلى عنصر استقطاب داخلي، يصبح طرح الثقة به إجراءً مشروعًا بوصفه آلية دستورية طبيعية، لا تصفية حسابات سياسية.

إن استعادة دور وزارة الخارجية لا تتحقّق بالنقد وحده، بل بمساءلة واضحة داخل مجلس الوزراء، وبحسم مسألة الأهلية والثقة بما يضمن إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة والمؤسسات. ففي لحظة لا يحتمل فيها لبنان مزيدًا من الانكشاف والارتجال، تبقى الدبلوماسية خط الدفاع السياسي الأول، لا ساحة صراع حزبي، ولا منبرًا لقلب الحقائق.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى