
بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
يطرح قرار تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني إلى لجنة وقف النار مع إسرائيل إشكاليات سياسية وإدارية تستحق تفكيكاً علمياً يتجاوز السجال الإعلامي المباشر، وصولاً إلى تحليل بنيوي يقرأ القرار بوصفه مؤشراً على اتجاهات جديدة في سلوك الدولة اللبنانية داخل سياق إقليمي متحوّل. فالتعيين ليس مجرد اختيار فرد، بل يمثل اختيار نهج.
أولاً: القراءة البنيوية للقرار – من يحكم قرار التمثيل اللبناني؟
في الحالات الطبيعية، يأتي اختيار رؤساء الوفود التفاوضية نتيجة معايير واضحة ترتكز إلى الخبرة، التخصص، والقدرة على إدارة التفاوض. لكن في الحالة اللبنانية، غالباً ما يتداخل العنصر السياسي مع الاعتبارات التقنية، ما يجعل القرارات خاضعة لمعادلات دقيقة بين القوى الفاعلة داخل الدولة.
إن غياب التخصيص المؤسسي لمهام التمثيل في “الميكانيزم” – وهو إطار تفاوضي ذو طابع أمني دبلوماسي – أدى إلى انتقال ملف شديد الحساسية من يد المؤسسة العسكرية إلى شخصية مدنية ذات حضور سياسي سابق، لكن من دون خبرة تفاوضية تراكمية. وهذا التحول يعكس ديناميات داخلية في اتجاه “إعادة تعريف” أدوار المؤسسات، أكثر مما يعكس رؤية استراتيجية موحدة.
من هنا، يُقرأ اختيار كرم كجزء من محاولة لإعادة توزيع النفوذ السياسي داخل الدولة، وليس مجرد خطوة تقنية مرتبطة بالمفاوضات.
ثانياً: المقاربة المهنية – بين معيار الخبرة ومتطلبات التفاوض
تُظهر الدراسات المقارنة في إدارة النزاعات أن اختيار رئيس وفد التفاوض يخضع لخمسة معايير أساسية:
- الخبرة التفاوضية،
- المعرفة التقنية بموضوع النزاع،
- المصداقية الداخلية،
- القدرة على إدارة الضغوط الخارجية،
- الانسجام مع الخط السياسي العام للدولة.
عند إسقاط هذه المعايير على اختيار سيمون كرم، نجد أن المعايير الثلاثة الأولى تعاني من ضعف واضح:
خبرته التفاوضية محدودة للغاية،
غيابه الطويل عن العمل الدبلوماسي يقلّل من خبرته التقنية،
ومواقفه السياسية السابقة، خصوصاً تجاه ملف المقاومة، قد تُضعف قدرته على بلورة موقف وطني جامع.
أما من حيث القدرة على إدارة الضغط الخارجي، فهذه نقطة تطرح سؤالاً علمياً: هل تم اختيار شخصية “مرنة” تُسهل تجاوب الدولة مع الضغوط الدولية؟
هذا الاحتمال لا يمكن إهماله، خصوصاً في سياق التوازنات الحالية بين واشنطن وتل أبيب وبيروت.
ثالثاً: السياق الإقليمي – لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الصيغة؟
يقع القرار ضمن لحظة إقليمية حسّاسة:
إسرائيل تسعى إلى فرض معادلات جديدة على الحدود،
الولايات المتحدة تضغط باتجاه “قنوات سياسية” للحل،
لبنان يعيش حالة إنهاك داخلي اقتصادي وسياسي.
في هذا السياق، قد يكون تعيين شخصية مدنية هدفه إرسال إشارة سياسية إلى الخارج بأن لبنان مستعد “لفتح الملف سياسياً”، وهو ما يتناغم مع الرغبة الأميركية في هندسة تسوية طويلة المدى.
لكن هذا النوع من الإشارات يفترض أن يُرفق بضمانات داخلية. وفي غياب الإجماع الوطني على الخيار، قد يتحول التعيين إلى نقطة ضعف تستغلها الأطراف المقابلة، لا سيما أن الوفد الإسرائيلي يضم شخصيات تفاوضية محترفة ذات خبرة طويلة.
إن التفاوض ضمن بيئة غير مستقرة سياسياً في الداخل يخلق اختلالاً في التوازن الدقيق بين القرار الأمني والقرار السياسي، ويضعف قدرة الوفد اللبناني على فرض سقف تفاوضي واضح.
رابعاً: مسألة “الشرعية التمثيلية” – بين الدولة والمجتمع والمقاومة
يدفع التحليل الأكاديمي إلى طرح سؤال جوهري:
من يمنح رئيس الوفد شرعيته؟
هناك ثلاثة مستويات للشرعية:
- شرعية الدولة،
- شرعية الشارع والمجتمع،
- شرعية القوى الفاعلة، وعلى رأسها المقاومة.
غياب الانسجام بين هذه المستويات يؤدي عادةً إلى خلل في وحدة الموقف التفاوضي. وفي هذه الحالة، تبدو شرعية كرم “ناقصة” في المستويات الثلاثة:
لم تُشرح قواعد اختيار واضحة من قبل الدولة،
المجتمع منقسم،
والمقاومة لا تجد في مواقفه السابقة ما يشير إلى انسجام كامل مع رؤيتها الأمنية.
وهذا النقص في الشرعية قد ينعكس تراجعاً في قوة الموقف اللبناني في أي جولة تفاوضية.
خامساً: تقييم استراتيجي للبدائل – هل كان هناك خيار أفضل؟
من منظور علم السياسة، يُعد تقييم القرار جزءاً من قياس الخيارات المتاحة. كانت أمام لبنان ثلاثة مسارات بديلة:
الحفاظ على التمثيل العسكري،
اختيار دبلوماسي مخضرم،
أو الاستعانة بخبير دولي متخصص بالنزاعات.
كل واحد من هذه الخيارات كان سيمنح لبنان قوة مضافة:
العسكريون يملكون الخبرة التقنية،
الدبلوماسيون يملكون القدرة على المناورة،
الخبراء القانونيون يملكون معرفة بآليات النزاعات الدولية.
مقارنة بهذه البدائل، يظهر خيار كرم كأضعف الخيارات من ناحية الكفاءة المهنية والشرعية التمثيلية والتأثير التفاوضي.
سادساً: الخلاصة بين دلالات القرار ومخاطر المرحلة
من منظور أكاديمي بحت، يمثل قرار تعيين سيمون كرم حالة نموذجية لما يسميه علم السياسة بـ “القرار غير المنسجم مؤسسياً”، أي القرار الذي لا ينبع من رؤية مؤسساتية واضحة، بل من منطق سياسي ظرفي.
هذا النوع من القرارات يحمل معه ثلاثة مخاطر:
- إرباك التمثيل اللبناني في المفاوضات،
- تعريض الموقف الوطني للتأويل والضغط الخارجي،
- فتح الباب أمام انقسام داخلي حول شكل الحل وحدوده.
يبقى السؤال الأساسي مفتوحاً:
هل كان الهدف من اختيار كرم خوض مواجهة تفاوضية مع عدو تاريخي؟ أم إرسال إشارة سياسية إلى الخارج بأن لبنان مستعد للتسوية؟
الجواب سيتضح ليس من هوية الشخص، بل من أداء الدولة:
هل ستوضع للوفد “خطوط حمر” واضحة؟
هل ستبني الدولة رؤية تفاوضية موحدة؟
وهل سيملك الوفد القدرة على الدفاع عن الأرض والكرامة الوطنية في وجه عدو يعرف جيداً كيف يستغل الثغرات السياسية والنفسية للمفاوض المقابل؟


