إغتراب

الاغتراب اللبناني… ظاهرة تاريخية تبحث عن إطار وطني حديث(محمد الجوزو)

 

القنصل محمد إبراهيم الجوزو* – الحوارنيوز

على امتداد أكثر من قرن، ظلّ الاغتراب اللبناني أحد أكثر الظواهر رسوخاً وتأثيراً في الحياة الوطنية. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، دفعته الظروف السياسية والاقتصادية إلى الهجرة، لكنه سرعان ما حوّل هذا الارتحال من استجابة اضطرارية إلى ثقافة قائمة بذاتها؛ ثقافة صنعت شبكة بشرية واسعة تنتشر اليوم من سيدني إلى مونتريال، ومن أبيدجان إلى ساو باولو، وتشكّل امتداداً ثانياً للبنان لا يقلّ حضوراً وفعالية عن لبنان المقيم. هذه الشبكة ليست مجرد تجمعات للبنانيين في الخارج، بل هي طاقة بشرية واقتصادية وثقافية حافظت على توازن لبنان واستمراره في أصعب اللحظات، وأسهمت في إبقائه حاضراً وفاعلاً رغم تعاقب الأزمات. ورغم هذا الحجم الاستثنائي في الانتشار، ما زال لبنان يفتقر إلى إستراتيجية اغترابية وطنية واضحة تنظم العلاقة بين الدولة وأبنائها في الخارج، وتحوّل هذا الامتداد إلى قوة مؤسساتية حقيقية. لقد بقيت العلاقة عبر العقود محصورة بالخدمات القنصلية والمبادرات الفردية، بينما العالم تغيّر، والاغتراب تغيّر، ولبنان نفسه تغيّر. وفي غياب رؤية استراتيجية بعيدة المدى، تشتّت الفعل الاغترابي وتفاوتت المقاربات بين دولة وأخرى، فيما ظلّ المغترب بلا إطار رسمي يحمي مصالحه ويعبّر عن عمق انتمائه. من هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة مقاربة الدولة للانتشار اللبناني عبر سياسة وطنية واضحة تُعيد تنظيم العلاقة بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر، وتؤسس لشراكة حقيقية لا تُختزل في خدمات قنصلية أو مبادرات ظرفية.

 

الاغتراب… مكوّن أساسي

 في الهوية اللبنانية

إن الاغتراب ليس امتداداً خارجياً للبنان، بل جزء من بنيته الثقافية والاجتماعية. فاللبناني المقيم في الخارج، جيلاً بعد جيل، أثبت قدرته على الاندماج في المجتمعات المضيفة من دون أن يتخلّى عن جذوره. هذا الارتباط العابر للقارات ظلّ أحد مصادر القوة اللبنانية، وأحد أبرز عوامل الحضور العالمي للبنان. ومع ذلك، بقي هذا الدور غير منظّم، لا سياسياً ولا اقتصادياً، ما سمح بتشتّت الجهود وغياب مرجعية موحّدة تقود العمل الاغترابي ضمن إطار وطني واضح.

 

 

الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم… بين الالتباس والتكامل

لا يمكن مقاربة الملف الاغترابي من دون التوقّف عند الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم التي شكّلت، على مدى عقود، الإطار الأهلي الأوسع تمثيلاً للجاليات اللبنانية. هذه المؤسسة لعبت دوراً أساسياً في جمع اللبنانيين في القارات وتعزيز الروابط بينهم وبين الوطن، لكنها لم تحظَ دائماً بالعلاقة المؤسسية التي تستحقّها. فالعلاقة التي نصّت عليها بعض النصوص بين الجامعة والدولة لم تُحدّد يوماً بصورة جدّية أو ثابتة، بل بقيت مرهونة بشخص الوزير نفسه. فإذا كان الوزير قريباً من الجامعة، تُفتح الأبواب أمامها؛ وإذا كان بعيداً عنها أو غير مقتنع بدورها، تُقفل هذه الأبواب وتتقلّص مساحة عملها. وهكذا تحوّلت العلاقة إلى علاقة تتغيّر بتبدّل الأشخاص بدل أن تكون مبنية على رؤية اغترابية مستقرة. المطلوب اليوم هو إعادة تعريف هذه العلاقة وتحويلها إلى علاقة تكامل مؤسسي؛ علاقة تحفظ استقلال الجامعة كهيئة تمثّل الانتشار الأهلي، وتمنحها في الوقت نفسه إطاراً واضحاً وثابتاً ومنظّماً للتعاون مع وزارة الخارجية ومديرية الشؤون الاغترابية، بعيداً عن المزاج السياسي أو الشخصي. وعلى مدى سنوات، تكرّر الحديث عن «توحيد الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم»، وكأن التوحيد هدف بحدّ ذاته. غير أنّ التوحيد، إذا أُنجز خارج رؤية وطنية واضحة، لن يكون سوى تسوية ظرفية سرعان ما تتفكّك. فالتوحيد الحقيقي لا يبدأ بجمع الأجنحة، بل من خلال إستراتيجية اغترابية وطنية واضحة ضمن إطار قانوني ثابت، تحدّد دور الجامعة وطبيعة علاقتها بالدولة وآليات التعاون، والخريطة التي ترسم وظيفتها داخل بيئات الانتشار. وحين تترسّخ هذه القواعد، يصبح التوحيد نتيجة طبيعية لا إجراءً شكلياً. بهذا التوازن، تستعيد الجامعة موقعها التاريخي، وتتقدّم كشريك في بناء السياسة الاغترابية الحديثة، لا كهيئة تتغيّر مكانتها بتغيّر الوزراء، بل كمؤسسة راسخة تستمد قوتها من شرعيتها ودورها.

 

 

المشاركة السياسية للمغتربين…

 حق لا تفصيل

لا يمكن الحديث عن مواطنة كاملة من دون مشاركة سياسية فعلية. فحق المغترب في الاقتراع من الخارج ليس تفصيلاً إدارياً، بل هو تأكيد أن لبنان لا ينحصر في حدوده الجغرافية. إشراك اللبنانيين في الانتشار في العملية الانتخابية هو خطوة أساسية لاستعادة الثقة وبناء علاقة شراكة فعلية بين الدولة وامتدادها البشري في العالم. غير أنّ ما يعيق هذه المشاركة الطبيعية والضرورية، خارج إطار الكيد السياسي، هو طبيعة النظام المحاصصي – الطائفي القائم، وهو نظام لا يجد المغترب – أو لنقل الغالبية المطلقة من المغتربين والمنتشرين – أنهم جزء منه أو معبّر عنهم. فالمغترب الذي عاش في بيئات ديمقراطية أكثر استقراراً وشفافية، لا يرى نفسه مندرجاً ضمن قواعد اللعبة الداخلية ولا ضمن حسابات النظام الطائفي اللبناني. وعليه، ربما كانت هذه المشاركة بحاجة إلى أن تأتي ضمن سلة إصلاحات سياسية شاملة، وفي مقدّمها ما نصّ عليه الدستور لجهة إقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، بما يعيد الاعتبار للمواطنة كهوية جامعة ويفتح الباب أمام مشاركة تمثيلية حقيقية لا شكلية.

 

 

الاقتصاد الاغترابي… 

شراكة في بناء المستقبل

منذ عقود كان المغتربون سنداً اقتصادياً للبنان، لكن حجم التحديات اليوم يفرض الانتقال من دور «الدعم» إلى دور «الشراكة». فالمغترب اللبناني يمتلك شبكات عالمية، وخبرات، ورأس مال قادر على إحداث فرق حقيقي. من هنا تبرز أهمية مشاركة اللبنانيين في الخارج في مشاريع الشراكة بين القطاع العام والخاص (PPP)، وإصدار تشريعات واضحة تُنظّم الاستثمار الاغترابي وتحميه، وإنشاء دائرة متخصصة داخل وزارة الخارجية تُعنى بالمستثمرين اللبنانيين في الخارج، ووضع الاغتراب في قلب الدبلوماسية الاقتصادية اللبنانية. بهذه الخطوات يصبح الاغتراب شريكاً فعلياً في بناء الاقتصاد اللبناني وفي إعادة إعمار الدولة.

 

 

الهوية والثقافة…

 ضمانة الاستمرارية

الانتشار اللبناني ليس مجرد وجود جغرافي، بل هو امتداد للهوية والثقافة. ولهذا، يحتاج لبنان إلى سياسة ثقافية تحمي اللغة والذاكرة والانتماء، وتمنح أبناء الجيلين الثاني والثالث فرصة التواصل مع جذورهم. هذا المسار يعزّز القوة الناعمة للبنان ويضمن استمرار الروابط بين الأجيال والبلد الأم.

 

خاتمة: نحو رؤية اغترابية تُعيد تنظيم الدور والامتداد

إن بناء إستراتيجية اغترابية وطنية ليس عملاً بروتوكولياً، بل خياراً استراتيجياً يعيد وصل ما انقطع بين لبنان وامتداده الطبيعي في العالم. فالانتشار ليس كتلة بشرية على أطراف الوطن، بل هو ركن من أركان توازنه ومستقبله. ومتى وُضعت سياسة واضحة ضمن إطار قانوني ثابت، تُفتح الطريق أمام نهج جديد يعيد للاغتراب دوره الطبيعي ويحوّله إلى قوة منظمة في خدمة لبنان. بهذه الرؤية، يمكن أن ينتقل لبنان من مرحلة الارتجال الاغترابي إلى مرحلة الشراكة الوطنية، وأن يُعيد بناء علاقة متوازنة مع أبنائه في العالم، علاقة قائمة على الحقوق والانتماء والثقة والعمل المشترك.

 

* عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي

* بالتزامن مع الزميلة اللواء

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى