سياسةمحليات لبنانية

على هامش زيارة البابا : رسائل متقابلة بسياقين متناقضين (أكرم بزي)

 

كتب أكرم بزي – الحوارنيوز

 

جاءت الرسائل المتبادلة بين حزب الله والقوات اللبنانية في لحظة دقيقة، تُختبر فيها قدرة القوى السياسية على ضبط خطابها وتظهير موقعها الحقيقي داخل المشهد الوطني.

فالكلام الذي خرج من الحزب لم يكن مجرد ردّ سياسي عابر، بل بدا أقرب إلى محاولة واعية لإعادة تعريف قواعد الاشتباك الداخلي، من خلال خطاب هادئ، غير استفزازي، يخاطب اللبنانيين بلغة الاطمئنان لا القلق، وبلغة الانفتاح لا التحريض.

حزب الله بدا وكأنه يقول إن الاختلاف مع أي طرف، مهما كان عميقًا، لا يلغيه ولا يُشيطنه، ولا يمنعه من أن يكون جزءًا من النقاش حول مستقبل البلد، خصوصًا في ظل التهديدات الإسرائيلية التي تفرض حدًّا أدنى من المسؤولية الوطنية.

 

في المقابل، جاء ردّ القوات اللبنانية محمّلًا بنبرة انفعالية واضحة، تُعيد استحضار الذاكرة وتستعيد مفردات المواجهة القديمة، وكأن المطلوب تثبيت صورة مسبقة لا الدخول في نقاش فعلي. فالخطاب القواتي بدا وكأنه موجّه نحو الجمهور الداخلي حصريًا، لا نحو اللبنانيين عمومًا، في محاولة لاستعادة زمام التعبئة وإعادة إنتاج شعور بالمظلومية في لحظة سياسية لم تعد تستوعب هذا النوع من الخطاب. المفارقة أن القوات لم تقدّم رؤية بديلة ولا مقاربة عملية لما يفترض أن يكون عليه الحوار أو الاشتباك السياسي، بل اكتفت بلغة الرفض، من دون أن توضح ما الذي تطرحه بدلًا من هذا الانفتاح الحذر الذي قدمه الحزب.

وكان مشهد الضاحية في استقبال الوفود السياسية بالورود مثالًا إضافيًا على هذا التباين. فالاستقبال الهادئ والمنفتح في منطقة صوّرها خصوم الحزب طوال سنوات بوصفها مساحة مغلقة كشف عن ثقة شعبية لافتة، وعن قدرة على احتضان المختلف بدل الانكفاء عنه. لكن المفارقة الأكبر تجلّت في محطة أخرى تمامًا: زيارة البابا التاريخية إلى لبنان. ففي الطرقات، خرجت الحشود متحدّة تحت المطر، بلا تمييز سياسي أو طائفي، لتستقبل رأس الكنيسة الكاثوليكية بحماسة غير مسبوقة، كأن البلاد تستعيد لحظة وطنية كبرى ضاعت طويلًا.

 أما في القصر الجمهوري، فقد كان لافتًا الحضور الرسمي المنظم الذي شارك فيه نواب ووزراء محسوبون على حزب الله، في مشهد أكد قدرة الحزب على تثبيت نفسه كقوة وازنة داخل الدولة، لا كجسم خارجها. لقد بدا الحزب حاضرًا بقوة، ومرتاحًا لدوره، سواء في الشارع أو في الساحة الرسمية.

 

وفي المقابل، كشفت الزيارة نفسها عن عزلة واضحة لدى القوات اللبنانية. فغياب رئيس الحزب عن حفل الاستقبال في القصر الجمهوري(أيا كان السبب) لم يكن مجرد تفصيل بروتوكولي، بل مؤشر إضافي على موقع سياسي بدأ يبدو منفصلًا عن لحظة وطنية جامعة. ظهر وكأن الحدث يدور في مكان، والقوات في مكان آخر. شعب يصفّق تحت المطر، ودولة تحتضن حدثًا تاريخيًا، بينما رئيس أكبر حزب مسيحي ينعزل عن مشهدٍ كان يفترض أن يكون أحد عناوين حضوره وبوابة لتظهير موقعه. هذه المفارقة تعكس بوضوح الأزمة السياسية التي تعيشها القوات: خطاب مرتفع، مقابل حضور يتراجع كلما احتشد اللبنانيون حول حدث جامع.

 

على المستوى السياسي، أظهر حزب الله أنه الطرف الأكثر قدرة على إدارة الخلاف من دون تحويله إلى أزمة أو رفع السقف لأغراض شعبوية. هو انفتاح مضبوط، لا يخفي ثوابته ولا يتنازل عنها، لكنه يعترف بدور الآخرين وبحقهم في الشراكة، ولو من مواقع متناقضة. وهذه المرونة المستندة إلى قوة ثابتة هي التي تتيح للحزب أن يخاطب الجميع بلا توتر ولا عدائية، وأن يقدّم نفسه طرفًا مسؤولًا في لحظة تحتاج إلى من يعيد إنتاج حدٍّ أدنى من التواصل الوطني.

 

أما القوات، فبدت وكأنها تتحرك بدافع الخشية من خسارة سرديتها التقليدية. فكل انفتاح يفتح الباب أمام تراجع خطاب القطيعة، وكل محطة وطنية جامعة، من الضاحية إلى الطرقات التي غمرها المطر احتفاءً بالبابا، تطيح بفكرة أن البلد مقسوم بين مساحات لا تتلاقى. لذلك جاء ردّها على خطاب الحزب عالي النبرة، كأنه محاولة لتثبيت خطوط تماس سياسية تهتز كلما تقدّم الحزب بلغة هادئة أو ظهر بثقة في مشهد رسمي جامع. إنها المفارقة نفسها التي رافقت خطابات القوات في أكثر من محطة: انفعال لا ينتج سياسة، وصوت مرتفع يخفي غياب البديل.

 

في المحصلة، بدا المشهد كأنه مواجهة بين من يتصرف من موقع قوة واطمئنان، ومن يتصرف من موقع قلق. حزب الله فتح الباب، في السياسة كما في الشارع وفي الاستحقاقات الوطنية الكبرى، وأرسل رسالة تقول إن الحوار ليس ضعفًا، وإن تنظيم الخلاف ضرورة وطنية قبل أن يكون خيارًا سياسيًا. أما القوات فاختارت الردّ بصوت أعلى بدل تقديم رؤية، وكأن الانفعال وسيلة لتعويض غياب المشروع. وهنا بالضبط يظهر الفارق بين خطاب يراكم ثقة، وخطاب يراكم توترًا، وبين قوة تستوعب اللحظة، وقوة تنزلق إلى رد الفعل كلما شعرت بأن صورتها التقليدية تهتز.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى