رأي

الكرم بين صاحبه والناطور: من يملك قرار الأرض في جنوب لبنان؟( أسامة مشيمش)

 

بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

يقول المثل الشعبي: “بدك تاكل عنب أو تقتل الناطور؟”..

 جملة بسيطة في ظاهرها، عميقة في معناها، تُقال كلّما وقف أحدنا أمام خيارٍ مصيريّ بين الاكتفاء بالنتائج أو الذهاب مباشرة إلى أصل المشكلة.

الأغلبية تميل للإجابة التقليدية: “بدّنا ناكل عنب وما إلنا بالناطور.”

لكن ماذا لو لم يكن الكرْم أصلًا لنا؟

وماذا لو أنّ الناطور يحتلّه احتلالًا؟

وماذا لو أنّ العنب نفسه ليس الهدف الحقيقي، بل الأرض التي تحمل هذا العنب؟

 

هذه الأسئلة ليست لغويّة ولا نظريّة، بل تُشبه تمامًا سؤال لبنان الأزلي، وسؤال جنوبه تحديدًا، في صراعه مع الكيان الإسرائيلي منذ عقود طويلة.

الكرم… هويةٌ قبل أن يكون أرضًا

 

الجنوب ليس رقعة جغرافية على خارطة. هو كرمٌ يملك أهله جذوره قبل أن يملكوا عروقه. كرمٌ وُلد من تاريخ طويل، صُقل بالتهجير والقصف والمقابر الجماعية، وتحصّن بالصمود الشعبي. هو كرمٌ سُقي بدماء آلاف الشهداء، وكُسيت جذوعه بعرق الفلّاحين الذين لم يغادروا أرضهم يومًا، رغم كل المغريات وكل الأخطار.

 

في هذه الصورة، يتبيّن أنّ الناطور في المثل الشعبي ليس حارسًا هنا، بل غاصبٌ مسلّح. الاحتلال الإسرائيلي لم يقف لحراسة الكرْم، بل لسرقته. لم يحمِ الحدود، بل تجاوزها. لم يحفظ الأمن، بل قتل الأطفال ودمّر البيوت وغيّر الخرائط. هو ناطورٌ غريب، لا يملك حقّ الوقوف عند باب أرض ليست له.

 

لهذا يصبح السؤال أكثر خطورة:

هل نريد فقط “أكل العنب” أي هدنة مؤقّتة، أم نريد “استعادة الكرم” أي تحرير الأصل؟

 

 

جنوب لبنان… حيث يصبح الصراع سؤال وجود

 

في الجنوب، لم يكن الخيار يومًا بين العنب والناطور. كان بين الحياة والمحو. بين البيت والنزوح. بين أن تكون أو لا تكون.

حين كانت القرى تُقصف، لم يطلب أهل الجنوب عنبًا، بل حقّهم في البقاء. لم يبحثوا عن مكسب بسيط، بل عن كرامة كاملة.

 

ومن هذا السياق ولدت المقاومة. لم تكن مشروعًا سياسيًا من فوق، بل نبتت من الأرض نفسها. دفاعٌ طبيعيّ عن الكرم، لأنّ الأرض إذا لم تجد أبناءها يحمونها، فلن يحمها أحد.

 

 

 

الاحتلال… ناطورٌ يحاول كتابة القصة

 

الاحتلال الإسرائيلي حاول منذ البداية أن يفرض روايته: أنّه صاحب الشرعية، وأنّ وجوده ضرورة لـ”الأمن”، وأنّ الشعوب المحيطة مجرّد طارئين. روايةٌ مشروخة، تُعاد صياغتها في الإعلام الدولي والقرارات الدولية، وتُقدّم كحقيقة جاهزة.

 

لكن الجنوب رفض هذا منذ اللحظة الأولى. رفض أن يكون “ضيفًا” على أرضه. رفض الاستسلام لروايةٍ لا تشبهه. رفض القبول بناطورٍ يفرض إيقاعه. ولهذا كان الصراع في جوهره صراع رواية، وصراع ملكية، وصراع وجود، لا صراع حدود.

 

 

 

وإن بحث البعض عن “كرمٍ آخر”… هل هذا ممكن؟

 

في لحظات الانهيار، قد يسأل الكثيرون:

“وليش ما فتّشنا على كرم تاني؟ على مستقبل أبسط؟ على حياة بلا صراع؟”

سؤالٌ يبدو منطقيًا في بلد ينهكه الاقتصاد والسياسة. لكنّ المشكلة أنّ الكرم ليس قطعة أرض قابلة للاستبدال. الكرم هو الهوية. هو التاريخ. هو العمود الفقري لمعنى الوطن.

 

وحتى لو أراد البعض الرحيل، فإن أرض الجنوب لا يتركها أصحابها. لأنها ليست ملكًا مادّيًا فقط، بل ملك روحي. ومن يترك روحه أين يذهب؟

 

لذلك، بدل تشبيه البدائل بالخسّ والفجل، يمكن القول إنّ من يترك كرمه بحثًا عن “راحةٍ مؤقّتة” يشبه من يترك كتاب حياته المدوّن بخط يده، ليبدأ قراءة كتابٍ لا يعرفه ولا ينتمي إليه.

ربما يجد فيه بعض الهدوء، لكنّه لن يجد ذاته.

 

 

 

الحقيقة الأخيرة: لا نريد العنب فقط… ولا نريد قتل الناطور فقط

 

الحقيقة أنّ لبنان، وخاصة جنوبه، لا يخوض صراعه ليأكل عنبًا فقط، ولا ليقتل ناطورًا فقط.

إنّه يريد استعادة الكرم نفسه.

يريد أن يقول للعالم إنّ الأرض ملكٌ لأصحابها، لا للمحتلّ، ولا للدوائر الدولية، ولا لقوى الأمر الواقع.

يريد أن يكتب روايته بيده لا بقلم الآخرين.

 

إنّ صراع الجنوب ليس نزاعًا تكتيكيًا ولا معركة موسمية، بل صراعٌ على الحقّ والكرامة والوجود.

وحين نفهم أنّ الكرم لنا… نفهم أنّ العنب ليس الهدف، بل حماية الأرض التي تُثمر العنب.

 

وهكذا، تصبح الجملة الشعبية أكثر وضوحًا:

نحن لا نبحث عن عنقودٍ نأكله، بل عن كرمٍ نعيش فيه.

وبدون استعادة الكرم، لا معنى لأي عنب في العالم!

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى